يقول أحدهم في طفولتي عندما كان يحل موسم فاكهة المانجا كان أبي يحضر منه كمية للبيت وكنا نجلس حوله لنشاركه طعمها العذب.
كان يعطينا اللب ، ويقوم هو بأكل قشورها.
كنت أراقب هذا التصرف الغريب منه دون أن أعلم السبب.
سألته يوما لماذا تأكل قشور المانجا يا أبي؟!
نظر إلي بابتسامة وقال : آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت.
لم أفهم معنى كلامه في وقتها ، وبررت الأمر بأنها قد تكون عادة قديمة إكتسبها ،
وخصوصا أن طعم قشور المانجا ليس سيئا ، ولكنه بصراحة لا يقارن بما هو تحت تلك القشور.
نسيت أمر قشور المانجا ، كما نسيت كثيرا من الذكريات بين صفحات كتاب الزمن.
من مدة قريبة ، أهداني صديق لي فاكهة مانجا ، جلبها لي كهدية من بلدة بعيدة.
كنت أمني نفسي بالإستمتاع بطعمها الذي ينافس شهد النحل طوال الطريق وأنا متجه إلى بيتي.
وبمجرد أن وصلت البيت بدأت بتقطيعها وهي تتفجر بين يدي بما تحتويه من لب ذهبي وعصير ملكي.
وقبل أن أضع أول قطعة منها في فمي ، إقتربت إبنتي الصغيرة مني وقالت : “أبي أريد قطعة”.
إبتسمت من طلبها وأعطيتها الجزء الذي كان بيدي ، وعلى الفور إقترب إبني يطلب مثل ما حصلت عليه أخته ،
ولحقتهما أختهما الثالثة تطلب حصتها تماما كما حصل أخويها.
كانت فرحتي بالنظر إليهم وهم يمرغون وجوههم بقطع المانجا والسعادة والفرح تشع من أعينهم ،
كشمس الصباح الدافئة بعد ليلة شتاء بارد ، عارمة لا توصف .
وفي لحظة وجدت نفسي أمام صحن خال إلا من بعض قشور المانجا التي مازالت عالقة بها أجزاء صغيرة من فتات الفاكهة الأصلية.
بدأت بالتهام قشور المانجا دون تفكير إلى أن توقفت فجأة لأتذكر كلمات أبي.
إقرأ أيضا: أصبحت أستاذا بالجامعة بسبب إلتفاتة جاري في الصلاة
الآن فقط بعد كل تلك الأيام إتضح لي معنى كلماته وماذا كان يقصد بعبارته.
الآن فقط علمت أن سعادة أبي الحقيقية لم تكن يوما في أكل قشور المانجا ،
وإنما كانت سعادته الحقيقية في رؤيتنا ونحن نأكل أفضل جزء منها أمامه.
كانت فرحته الغامرة وهو يشاهدنا ونحن نحصل على أفضل وأنقى وأجود ما كان يقدمه إلينا في لحظتها.
وتساءلت حينها والدموع في عيني ، كم من مانجا قدمها لنا أبي واكتفى هو بمجرد قشورها؟!
وأنا هنا لا أقصد تلك الفاكهة بذاتها ، ولكن أقصد كل ما ترمز إليه في هذه الحياة.
فالمانجا قد تكون ملبسا أو بيتا أو فراشا أَو نوما مريحا أو تعليما.
وقد تكون أيضا لمسة حنان على الكتف ، أو قبلة على الوجه.
فمانجا الأهل لا حدود لها ، ولا يمكن لأحد أن يقيم سعرها.
أنظر من حولي لأجد أبناء لا يقدّرون أهلهم حق القدر ، ولا يوفونهم حقهم.
وكأن وظيفة الأهل في هذه الحياة هي في إختلاق الذرائع التي من شأنها أن تكدر صفو حياتهم
أرى أبناء قد تملكهم الغرور حتى حسبوا أنهم يفوقون أهلهم علما وفكرا ومنطقا.
أرى أبناء يقدسون كلمة الزوج أو الزوجة في مقابل دموع الأم أو الأب.
أًرى أبناء يهجرون أهلهم في ديار رعاية بعيدة ويتركونهم لرحمة الغرباء.
وأرى أبناء قد يقاطعون أهلهم سنوات.
أرى أبناء يتمنون زوال أهلهم من هذه الدنيا عاجلا ليس آجلا.
وأرى كل ذلك وفي نفسي ، لو كان الأمر بيدي ،
لدفعت عمري كله ثمنا حتى يعود بي الزمن لأجلس مع أبي يوما واحدا ،
أسبقه حينما يحضر فاكهة المانجا لألتهم قشورها بدلا عنه ، فيتبقى له فقط أفضل ما فيها.
حتى إذا سألني لماذا أحب أكل القشور أقول له : آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت.