أثناء تشطيب شقتي ؛ احتجت إلى عمال لنقل سيارة رمل إلى شقتي في الطابق الأول ،
ولم أستطع البتة أن أجد عاملًا واحدًا يحقق لي طلبي في تلك الفترة !
فاتصلت بأحد أصدقائي وكان ذو صلة مباشرة مع العمال أصحاب المهن المعمارية فأسعفني واستجاب لطلبي بصعوبة بالغة ومشقة كبيرة !
وأرسل لي عاملين لينقلا الرمل إلى الشقة ؛ كان الرجلان قد تجاوزا الستين من العمر ؛
الأول رجل طويل ضخم مفتول العضلات قوي البنية مفعم الصحة والثاني رجل شديد القصر نحيل الجسم ضعيف البنية مقوس الظهر ؛ عليل الهيئة والمظهر !
قلت لصاحبي وأنا في أشد حالات الغرابة والإستهجان والإستفهام !
هل بمقدور هؤلاء إنجاز هذا العمل ؟! فهو من أصعب وأشق الأعمال !
قال لي صاحبي: نعم، وبسرعة تفوق تصوراتك فلا تقلق إزاء الأمر !
قلت على مضض وغير قناعة : كما تريد وجهزت لهم متطلباتهم ، وتركتهم وذهبت وأنا غير مقتنع وغير مطمئن للأمر !
وبعد مضي ساعات قليلة والقلق والشك يأكلني من داخلي ذهبت إلى الشقة مرة ثانية فشكوكي تساورني أن هناك شيئا ما ؛ فالوضع كله غير مقنع !
وكم تفاجأت عند وصولي إليهما وكانا قد قطعا أكثر من نصف الشوط في عملهما !
فوقفت أنظر إلى طريقتهما في إنجاز عملهما ، فالرجل العليل يفتح أكياس الرمل ويجهزها فقط ولا عمل آخر له سوى ذلك ؛
والرجل القوي يملأ الأكياس ويحملها على كتفه ويصعد بها إلى الشقة ! قسمة غير عادلة من حيث توزيع المهام والأدوار والجهد في هذا العمل.
إقرأ أيضا: في قديم الزمان أراد رجل غني أن يعلم ولده الصغير
بعد أن أخمدت ما ساورني من شكوك حولهما ؛ أحببت أن أكافئهما بشيء من المرطبات (الكازوزة) فقلت لهما ،
سأجلب لكما مثلجات ومرطبات تعدِّل مزاجكما وطلبت من العامل القوي أن يذهب معي لأستفهم منه على انفراد ،
ولا أحرجه أمام العامل العليل ؛ وسألته أسئلة كانت تدور بخلدي ، كان أولها: هل هذا الرجل العليل يعمل أجيرًا لديك بأجر يومي ؟!
قال لا إنه شريكي مناصفة ! تعجبت من ذلك ؛ قلت له: ولكن هذا ليس عدلًا ، فأنت من تقوم بكامل العمل وليس فتح الأكياس وتجهيزها بعمل يشق عليك فلماذا ذلك ؟!
قال لي نعم ، أعلم ذلك وأعرفه جيدًا ولكن رزقي كله متعلق بهذا الرجل العليل ،
وهو شريكي مناصفة من سنوات عديدة خَلَت ونحن على هذه الحال وسأريحك وأخبرك السر في مشاركتي له !
لقد كنت يومًا بحاجة عامل صغير ولم أجد ؛ حين جاء إليّ هذا العليل يطلب أن يعمل مساعدًا لي فوافقت على عمله ،
واستحييت من نفسي أن أعطيه أجر ولد صغير آخر النهار خصوصًا أن لديه أسرة يرعاها فأعطيته الثلث من كامل أجرة الحمولة ،
وبقيت على هذه الحال بضع سنين إلى أن عرفت زوجتي بقصتنا فاستهجنت الأمر وعارضت بشدة وطلبت أن أطرده نهائيًا ولا أقبله حتى بأجر عامل صغير !
فامتثلت لأوامرها وطردته عني نهائيا وخلصت منه !
وفي اليوم الثاني ذهبت كالعادة إلى مركز تجمع العمال الحمالين لأجد عملا أقوم به ولكن لم يطلبني أحد ،
ورجعت بيتي ولم أعمل في ذلك اليوم وعاودت الكرة في اليوم الذي يليه ولكن دون جدوى وتوقف عملي قرابة ثلاثة أشهر ونيف !
جلست خلالها أفكر :لماذا لم يطلبني أحد للعمل وأنا الرجل القوي الشديد الذي ينجز وحده ما يقوم به بضعة رجال ؟!
إقرأ أيضا: كان هناك ثلاثة أصدقاء الأول غني والثاني والثالث فقراء
فاستخرت ربي بصلاة ركعتين وأحسست بعد الإستخارة أن السبب كان طردي هذا الرجل العليل الذي قطعت رزقه ،
بسبب انصياعي لرغبات زوجتي التي قرأتْ مفهوم الرزق بقراءة القوانين الدنيوية أي واحد زائد واحد يساوي اثنين !
وسرعان ما ذهبتُ إلى بيت الرجل العليل ثانية وأخبرته أن يجهز نفسه للعمل في اليوم التالي.
وأقسم لك يا أستاذ أننا في اليوم التالي عندما ذهبنا إلى مركز تجمع العمال كنا أول من تم طلبهما للعمل ،
ولم ينقطع عملي يومًا واحدًا بعد ذلك !
فشاركته مناصفة فزادت أجوري وزادت البركة في جميع شؤون حياتي ومنذ ذلك اليوم وهو شريكي ومصدر رزقي !
اتقوا الله في ضعفائكم وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ،
وليست العبرة في فقير وغني ولا في ضعيف وقوي العبرة أن تكون أعمالنا خالصة لله وأن تملأ الرحمة قلوبنا ويغشاها التسامح ،
فكم من قوي بحاجة نصيحة وكم من غني بحاجة كلمة وكم من فقير بحاجة لقمة ،
وكم من أرملة ويتيم بحاجة كلمة حنونة ونحن جميعنا وبكل أحوالنا بحاجة إلى أن ندرك الرحمة ونستشعرها.