أحبني طفل الجزء الثالث
بأيام صفائنا كان يرسل لي أبياتاً من الشعر على الدوام ، ويهتم بتفاصيل أيامي ، حيث أنه يطمئن عليَّ إن تناولت طعامي ونمت جيداً ،
ويهتم بمعرفة ما الذي أحبه ، كي يملأ أيامي مفاجآت بعد زواجنا ،
عدا عن أنه يتصل بي في نهاية كل يوم ليسمع صوتي إن كان حزيناً أم سعيداً ،
وبدون أن أقول له أني حزينة ، يفهم ذلك من نبرة صوتي ولا يغلق الإتصال قبل أن أخبره بما أزعجني ،
ثم يخفف عني ويصر أن يسمع ضحكتي ليطمئن أني لن أنام وأنا حزينة ،
غير أنه يزورنا كل أسبوع ليحضر لي هدية ويراني وجهاً لوجه.
برغم تعبي النفسي من مشاجراتنا الأكثر من صفائنا ، لكني لم أستطع أن أنفصل عنه ، فقد كنت أقول في قرارة نفسي :
أين سأجد رجلاً مثله ، لا يحب سواي ، ولا يكلم فتاة ، ومن العمل إلى المنزل ،
مع الإعتناء بأمه المريضة حيث لا معيل لها سواه بعد أن توفي والده ، وهاجر كل أخوته وتركوه لها ،
برغم أنه أصغرهم ، غير أننا نعرف أخلاقه الحميدة كون عائلته جيرانٌ لنا منذ أن كان في الخامسة من عمره.
إلى أن ذهبنا لزيارة أمه أنا ووالدتي ، فإذا بأمه رَمَقَتني من رأسي لأخمص قدميّ وقالت :
والله لا أعلم ما الذي جعلكِ توافقين على الخطوبة من ابني ، فهو شاب فقير مدخوله بالكاد يكفينا ،
غير أنه سليط اللسان ، إن كنت أنا أمه يتكلم معي بتأفف وأحياناً يشتمني ،
هل لكِ أن تتخيلي ما الذي سيفعله بكِ بعد الزواج؟!
كادت أن تتمزق جفوني من صدمة ما سمعت ، فقلت لها : ولماذا يشتمكِ ؟!
لأني أطلبُ منه أن ينظف المنزل ويغسل الأطباق ، فأنا لا أستطيع أن أصل للحمام إلا بشق الأنفس ،
وأنا أستند على كل شيء أمامي ، فينتفض بوجهي غاضباً ويطلب مني أن أصمت ، إن لم ينظف المنزل هو من الذي سيفعل ذلك؟!
حتى أني أعد الخضار للطبخ وأنا جالسة ، وتأتي جارتي لتضعها على الموقد ،
وتنتظر لحين استواءها ، فأنا لا أستطيع الوقوف.
إقرأ أيضا: تقول حملت معطف والدي فلمحت ثقبا كبيرا في جيبه
لا عليكِ ، سأتكلم معه.
ما إن خرجنا حتى اتصلت به ، وأخبرته بما قالت أمه ، فقال : دعكِ منها ، إنَّ المرض قد أثَّرَ على دماغها ، فهي لا تكف عن الطلبات ،
وإن كنت قد شتمتها مرة من غضبي منها ، فهي شتمتني آلاف المرات ولا تكف عن الدعاء عليَّ بالموت ،
وإن كنت سليط اللسان فقد أخذت ذلك منها.
حينها تنهدت قائلة : وإن يكن ، عليكَ أن تراعي أنها أمضت سنيناً دون أن تخرج من المنزل بسبب الأمراض الذي أنهكتها ،
من الطبيعي أن تكون غاضبة في أغلب الأوقات ، إن لم تحتملها أنتَ فمن يحتملها ؟!
عندما تعود إلى المنزل ، قبّل جبينها ويديها واطلب رضاها ، وافعل ما تريده منك.
فانتفض بوجهي غاضبا : هل فهمتي ما قلته ، أم أنَّك كالبهيمة لا تستوعبي الكلام ،
إنها لن تكفّ عن الطلبات والتذمر ، وأنا أعود من العمل مرهقاً كل يوم لا طاقة لي لاحتمالها.
فقلت له : أمك على حق ، فإن كنت معها سليط اللسان ، يستحيل أن تتغير معي ،
سأرسل لك اليوم كل هداياك ، وعلى رأسها خاتم الخطوبة والخمار.
افعلي ما تشائين.
أمضيتُ اليوم الأول بعد فراقنا كمن تخدَّرت مشاعرها ،
فقد دُهِشَ جميع أفراد عائلتي كيف أنه لم تنهمر دموعي بل أني جلستُ معهم لمشاهدة التلفاز وشاركتهم في الأحاديث المختلفة ،
فقالت لي أمي في اليوم التالي : بما أنكِ لم تبكين في الأمس ، فهذا يعني أنَّ حبكِ له قد انتهى.
إقرأ أيضا: من النظرة الأولى لها علمت أنها متكبرة
فشعرت كأنَّ قلبي قد صرخ قائلاً ، بل لا زلتُ أحبه ، فتمالكت نفسي وقلت لها :
انفصلتُ عنه لأني أعلم أنه سيكون سعيداً مع غيري ، فأنا لن أستطيع إسعاده بعد الزواج ،
لأنَّ عقله وتفكيره يخالفني لدرجة أنه متعصبٌّ لأفكاره ولا يريد حتى تقبّل اختلافي عنه ،
ما عدا أنه عندما يغضب لا يستطيع السيطرة على لسانه ، وأنا لن أستطيع أن أمسح شخصيتي ، وأتنازل أكثر من ذلك لأرضيه ،
لم أعي كيف سقطت دمعتي وأنا أتكلم فمسحتها وابتسمت قائلة :
أنا على يقين أنه سيجد فتاة يحبها وستكون مطابقة له بتفكيرها ،
ومن المؤكد أنّ حبه لي سينتهي وينساني كأني لم أكن ، أما أنا فلن أنساه ولن أتوقف عن حبي له ما حييت.
بعد مضي بضعة أيام ، انتقلنا إلى منزل آخر مما جعلني أشعر براحة نفسية كوني لن أتمزق من رؤيته صدفة.
استمرت أمي بزيارة أمه كل فترة ، للإطمئنان عليها ، فلم تسمح لاختلافي مع ابنها أن يكون سبباً بإنهاء سنوات من الألفة لحسن عشرتها ،
فقد كانت مع أولادها وزوجها نِعْمَ الجيران.
عادت أمي من زيارتها ذات مرة وقالت لأبي :
خطيب ابنتكَ السابق هاجر دون عودة.
دُهِشَ أبي ثم قال : ومن أين له بالمال ، وأمه لمن تركها ؟!
باع خاتم الخطوبة الذي أعادته ابنتك ، ومع النقود التي ادخرها لزواجه منها استطاع السفر ،
أما عن أمه فسيستمر بإرسال نقود كمصروف لها مع المصروف الذي يرسله إخوته ،
لحين استطاعته أخذها إليه ، ولحين ذلك سنعتني بها أنا وجاراتها.
سمعتُ حديثهما صدفة ، وبلحظة شعرتُ كأني تغربت عن بلدي وأنا أحيا بها ، وأصبحت أرى كل شيء حولي غريباً ،
الهواء والطرقات والشوارع ، فقد كان وجوده معي تحت سماء واحدة حتى لو لم أكن أراه كفيلاً بجعلي أتأمل أن يشعر بي ،
إقرأ أيضا: أحبني طفل الجزء الرابع
ويدرك السبب الذي جعلني أنفصل عنه ، ثم يغير من نفسه قليلاً ويعود لي.
مضت أشهراً عشتها بروتين مميت ، كانت الدافع لي لتقديم الثانوية العامة ، وعلى الرغم من نجاحي وقبولي الدخول إلى الجامعة ،
لكني لم أشعر بالفرح ، فقد كان غيابه عني كفيلاً بجعل الفرح ناقصا.
مرت سنة دراسية ، أمضيتها بلا مبالاة إن نجحت أم رسبت ، فقد كانت رغبتي بإنهاء تعليمي لأتوقف عن تخيّل وجهه بكل الوجوه.
إلى أن أتت أمي ذات يوم وقالت بابتسامة عريضة :
خطيبكِ السابق قد تقدم لخطبتكِ مرة أخرى.
اعتقدت أنها تمزح معي فضحكت قائلة :
قولي له موافقة.
فردت : اليوم ذهبت لزيارة أمه ، وقالت لي بأنه لم يستطع نسيانك ولا حُبِّ فتاة سواكِ ،
وبأنها تريد السفر إليه بعد شهر لأنه قد رتب أموره استعداداً لاستقبالها ،
وإن كنتِ لا زلتي تحبيه ستسافرين معها ، وقد اقترحَت أن تكون أول عودتكما بعقد قران ، لقرب سفرها ،
وأقسمت أنّ ابنها قد غيرته الغربة وأصبح شخصاً آخر هادئاً خاصة بعد أن فتح الله له أبواب الرزق ،
فلم يعد يغضب كالسابق إلا للأمور التي تستحق الغضب ، مما يدل أنَّ سرعة غضبه كانت لقلَّة رزقه.
شعرت كأني بحلم فقلت لها : هل لي بصفعة تؤكد لي أني لا أحلم.
فضحكت قائلة : سأخبرها بموافقتك ، ولكن لا تنسي أنَّكِ ستتركي دراستك الجامعية وستنسيها للأبد.
قلت لها بابتسامة عريضة : لا أريد شيئاً سواه.
طلبت والدته من أمي ألا تعطني رقمه إلا بعد عقد قراننا خشية من عتابنا الذي ربما يتطور لشجار ينتهي بانفصالنا مرة أخرى.
بعد مضي بضعة أيام ، اتصلت والدته بعمه وطلبت منه أن يكون وكيلاً لابنها في عقد القران ،
كون وضعه لن يسمح له بالعودة إلى الوطن لعقد القران فقط ، فأحضر معه مأذوناً ، اتصل به وسمع موافقته على الزواج مني.
في تلك الليلة شعرت كأنَّ أمي أنجبتني للحياة مرة أخرى ، شعرت كأنَّ قلبي يطير من السعادة ،
ولم أصدق أنَّ أدعيتي التي دعوتها لله في صلواتي بأن يجعلني زوجته ، ونسيتها ،
كان الله يهيئ الوقت والظرف المناسب لإجابتها.
يتبع ..