أحيانا يبتلينا الله بحرماننا من أعز ما نملكه ، فتصفعنا الخطوب وتعري قلوبنا من السعادة ،
ويلفنا الحزن بردائه البارد مقيدا أرواحنا بالألم الذي يستنزف كل ما نملكه من طاقة لنستمر.
كعادته منذ شهر يجلس قبالته كلما عاد من عمله ، يراقبه بحزن جلى على ملامحه ،
كيف لا وفلذة كبده اعتزل ما حوله فجأة ، يعتكف أبعد زاوية يعامل ألعابه كما لو كانت عدوا سيفتك به ،
اختفت حروفه التي تملأ الأجواء بهجة ، تحول عبد الله المرح إلى طفل انطوائي صامت.
لازال كلام الطبيب يتردد بداخل عقله ، شعور بالعجز تملكه ، إستعمر الحزن منزله الدافئ ،
حتى بات باردا كالصقيع ، انزلقت السعادة كانزلاق حبات الرمل من قبضة مغلقة ، مهما كانت محكمة ،
سؤال واحد يتردد بداخله (ماذا بعد؟)
هل سيترك صغيره يضيع بين غياهب عالمه الذي صنعه مانعا كل من يحاول الإقتراب منه ، كيف سيواجه العالم بعد موته؟
عند هذه النقطة سرت رجفة عنيفة بداخله ، عصف الرعب بكيانه ،
وارتفع أنين روحه بسبب تلك الأفكار السوداء التي اكتسحته دون رحمة بقلبه المكلوم.
لا ، رددها قلبه قبل لسانه مما جعل حواس زوجته التائهة في ملكوتها هي الأخرى تتأهب :
ماذا هناك الياس؟
نظر لها بإصرار عجيب ، سرعان ما غادر الغرفة بعدما شيع صغيره بنظرات تشع بالأمل ، ذهب لمكتبه وفتح حاسوبه ،
ثم أطبق جفنيه بقوة داعيا بقلب صادق أن يلهمه الله القوة ، لينجح فيما هو مقدم عليه ،
دون تلك الكلمات في شريط البحث ، وتلك الغصة أبت إلا أن تضيق خناقه (طيف التوحد) .
لتبدأ سلسلة أبحاثه التي تحولت لدراسات مكثفة في مركز متخصص ، لم يدخر جهدا لينهل مما يسمعه أو يقرأه ،
يجهز كل ما تطاله يده من أسلحة لمواجهة هذا الوحش الذي يلتهم ابنه في كل ثانية تمر ،
إقرأ أيضا: كان رجل ثري يزور معرضا للرسم
تحول إصراره لشغف في التعلم ليحصل في النهاية على شهادة أخصائي توحد ،
ليس ذلك فحسب بل امتد إصراره لتعديل السلوك وكيفية التعامل مع صغيره عبد الله ،
هدير من الفخر استعمر دواخله مبددا ذلك اليأس والحزن كأنه لم يكن ،
ليقرر أخيرا بداية حربه مع هذا الوحش الكاسر ، أصبحت رحلة التوغل لعالم صغيره أشبه بلعبة لن يقبل إلا أن يخرج منها فائزا ،
لن ينكر أنه واجه صعوبات كفيلة بجعله يتقهقر ، لكن بالنسبة لأب أخذ على عاتقه تسخير حياته لابنه ،
فكلمة اليأس أو التراجع ، حذفت من قاموسه للأبد ، ليبدأ الصغير عبد الله في التجاوب ببطء ،
لكنه بعث في قلب والده جرعة من الأمل لإكمال الطريق الذي سار فيه ،
بعد ليالي مضنية من التعلم كطفل يخطو أولى خطواته ، رغم الكم الهائل من المعلومات التي تشربها أثناء دراسته ،
لكنه بات يحتاج لمساعدة بعض الأخصائيين.
في اليوم التالي استدعى أخصائية النطق ، لتعقد مع الصغير جلسة مغلقة ، إنتهت بعد وقت ليس بقصير ،
قضى باقي ساعات النهار يتلظى على مراجل الإنتظار المتقدة ، يبتهل بصمت أن يتلقى البشرى ،
لكن تلك المكالمة بددت كل آماله ، وحوافزه التي يرتكز عليها ، عندما أنبأته بأنه لا فائدة ترجى من جهوده المضنية ،
عليه أن يتقبل حقيقة أن عبد الله سيظل سجينا في عالمه الذي نسجه بمفرده.
في هذه اللحظة تهالك الياس أرضا ، يضم ركبتيه بذراعين مرتعشتين ، لتنزل دموعه كي تخفف من وطأة آلامه ،
كاسرة كل جرعة قوة كان يقتات منها ليكمل طريقه المليء بالأشواك ،
بما في ذلك ألسنة الناس بأن كل ما يفعله مجرد مضيعة للوقت ،
يكفي أن ينفق على أكله وملبسه ، ويوفر جهوده لابنته الأخرى ، أو ينجب طفلا آخر.
إقرأ أيضا: يقول أحد الشيوخ كنت أزور المستشفيات ودور المسنين
لكن وقبل أن يرتطم بهاوية القنوط والخيبة ، أنقذته تلك الكلمات المعدودة التي عانقت روحه (أبي حبيبي)
جملة كاملة لأول مرة منذ أشهر ، دون تلقينه إياها ، ليقفز بجسده الصغير يندس بين ذراعيه المتصلبتين ،
ثانية ، اثنان ليستوعب ما حدث في الثالثة ، عندما ردد ما سمعه بحروف تعثرت بين شهقاته ، طوقه بقوة نافضا عنه أغبرة الخيبة ،
في مشهد رسخه كذكرى وشم تفاصيلها في ذاكرته ، لتصفعه كلما زاره الفشل.
في ظل هذه اللحظة سأل نفسه بإلحاح كل من أم وأب يعانيان ما عاناه في الأشهر الماضية؟
كم من أب لم يحالفه الحظ لاكتساب ما عافر للحصول عليه ، بفضل حالته المادية الميسورة.
كم من أم استوطن الحزن وشبح الخوف دواخلها ، ليؤرق مضجعها ،
فقط لأن صغيرها أو صغيرتها حكم عليهم الأسر في عالم لا يعلم ماهيته إلا من يقبع بداخله.
أمضى ليلته يبني أحلاما أخرى غير تلك الصغيرة ، عبد الله واحد من آلاف الأطفال الذين يعانون من عدم قدرتهم على إيصال مشاعرهم ،
واحتياجاتهم بشكل صحيح ، إذا لماذا لا ينقل ما يعرفه للآخرين لربما خفت معاناتهم ولو قليلا ،
فور توسط الشمس كبد السماء ، خرج من منزله لوجهة محددة داعيا في كل خطوة أن ينجح ليس لأجله ،
بل لأجل طفل يشبه عبد الله.
بعد أيام سهر خلالها في إعداد مشروعه الصغير مع مجموعة من المختصين المتطوعين ،
ليفتتح أخيرا مركزه الصغير ، لتنظيم دورات لفائدة الآباء ، لتعليمهم كيفية التعامل مع أطفالهم المصابون بطيف التوحد ،
ليكون الأب الذي يليق بعبد الله ، الآن وصل لهذه المرحلة ، لن يخاف من ملك الموت عندما يقبض روحه ،
لأن عبد الله بدأ في السير لعالمه الخارجي ، مخرسا كل الألسنة التي نعتته بالمعاق أو العالة.
سنوات مرت عانى خلالها من التنمر والسخرية من حالته ، لم يتكبد أحد عناء الشعور بما يقاسيه جراء سياط ألسنتهم التي تجلده بقسوة ،
لكنه استطاع تخطي كل ذلك بإيمانه أولا ، وبمساعدة والده الذي كان ولا زال كالحصن المنيع يشد من أزره متى ما طرق الحزن بابه ،
ها هو الآن يتخذ لنفسه مقعدا في نفس الزاوية ،
لكن ليس للحرب مع ألعابه بل لتحضير رسالة الماجستير في مجال الطب.