أميرة الورد وأميرها الجزء الرابع
أميرة الورد وأميرها الجزء الرابع
وحينما تذوق الطعام الذي أفسدته بالملح والفلفل لم يؤنبها أو يتذمر ، بل انفجر ضاحكاً وقبّل يديها وذهب معها إلى المطبخ وعلّمها كيف يحب طعامه أن يكون ،
ثم قاما بإعداد الطعام معا.
وهكذا وجدت العمة أن كل مؤامرة تحيكها لغرض الوقيعة بين الأمير ومعشوقته ، فإنها تنقلب لصالحهما وزيادةً في حبهما معا ،
حتى استسلمت أخيراً وتخلت عن دسائسها.
وكان الملك قد أخبر الملكة عن حقيقة وردة. فاقتنعت الملكة مثله في أن وردة لن تناسب إبنها ، فمهما كان جمالها وافتتان ولدها بها ،
فإن حقيقة كونها من عالمٍ آخر تجعل من زواجها بسامر أمراً مستحيلاً من وجهة نظر الملكة.
فاستدعت الملكة شقيقتها خالة سامر وطلبت منها التخلص من وردة بأي طريقةٍ كانت ،
المهم أن الملكة لا تريد أن ترى وردة في القصر بعد الآن ،
ووعدتها أنها في حال نجحت في ذلك ، فسترغم الأمير على الزواج من إبنة تلك الخالة.
ولمّا كانت الخالة تتوق لرؤية الأمير زوجاً لابنتها الوحيدة ، فقد عملت حالاً على التقرب من وردة ،
ولم تكن تلك بالمهمة العسيرة ، لأن وردة بقلبها الشفاف الطيب تميل إلى مصادقة الجميع ،
لأنها ببساطة لا ترى الشر في الآخرين. بل تفترض بأنهم مثلها طيبون بالفطرة.
وبعد أن نجحت في كسب صداقتها ، قامت الخالة بمثل ما قامت به العمة من قبل ،
فاكتشفت كما اكتشفت العمة أن ذلك لم ينفع في شيء على الإطلاق.
لكنها وخلافاً للعمة ، فإن الخالة لم تستسلم ، فهي كانت ذات طبيعة شرانيّة ومصممة على التفريق بينهما وبأية طريقة ،
كما طلبت منها الملكة.
إقرأ أيضا: سأجعلهم يعانون مثلي وأكثر
لذا قامت باستخدام الأسحار للتفريق بين الحبيبين ودست بعض التعاويذ في غرفتيهما ،
كما قامت بإخضاع وردة لجلسة خاصة لغرض سحرها والتأثير عليها ، لكن السحر لم يؤثر في وردة ، ولم يجد منفذاً لقلبها الطاهر.
فاستشاطت الخالة غضباً وقادها جنون اليأس إلى أن تفكر في قتل وردة ،
فالملكة طلبت منها التخلص من وردة بأي طريقة ، ولم يتبقّى سوى طريق الدم.
لذا فقد أقدمت على أن تُسقي وردة شراباً مسموماً سقطت الفتاة على إثره على فراش المرض ،
وعندما اكتشف الأمير المسكين ما حلّ بوردته الجميلة ، حتى ذهل وكاد أن يجن.
أحضر لها الأطباء لكنهم أخبروه أن الأوان قد فات ، وأنه لا سبيل لبقائها على قيد الحياة.
حمل وردة ووضعها على فرسه ، فهرع نحوه أبواه يسألانه إلى أين سيذهب؟ فقال بدموعٍ جارية :
لقد حاولت وردة إخباري بأن هذا العالم لا يناسبها. لا يتناسب مع نقائها ولا يريد محبتها ،
ولكني أنا الاحمق كنتُ مصمماً على أن أجلبها إلى هنا ، ظناً مني بأني سأنجح في جعلها تتناسب مع عالمنا.
قالت الأم : إن قلبها الصغير لم يتحمل الأمر.
رد سامر : أنتي مخطئة أيتها الملكة ، فقلب وردة كبير جداً ويحمل من الحب ما بإمكانه أن يتحمل الدنيا بأسرها.
المشكلة ليست في وردة ، بل في قلوب الآخرين الصغيرة وعقولهم الضيقة ، الوداع يا أمي ، الوداع يا أبي.
وبتلك الكلمات غادر سامر المملكة حاملاً في أحضانه وردة التي أخذت بالذبول إيذاناً برحيلها عن الحياة.
إستمر سامر بالجري على فرسه بلا انقطاع حتى بلغ خيمة المرأة العجوز ،
فوجد عندها رهطاً من الرجال والنسوة العجائز ،
فأنزل وردة أمامهم ثم توسل بالعجوز أن تفعل شيئاً ما لإنقاذها.
نظرت المرأة إلى وردة وهي تجود بنفسها وقالت :
أخبرتك أنها ستذبل وتموت في عالمك يا فتى ، وبأنك لن تستطيع مداراتها طوال الوقت.
إقرأ أيضا: في بيتنا حجرة مغلقة الجزء الأول
رد سامر بأسى : أعدكِ بأني سأتفرغ لها كلياً هذه المرة ، ولن أتركها لوحدها بعد الآن.
تنهدت العجوز وقالت : أرجو أن تنتهي الأمور إلى خير هذه المرة.
ثم التفتت إلى سامر وأضافت : هنالك طريقة واحدة لإنقاذها ولكنني لست متأكدة إن كانت ستنجح ،
فالطريقة قديمة بقِدَم الزمن وما عاد لها واقعٌ بعد الآن ، إنها ببساطة طريقة الحب.
تسائل سامر : طريقة الحب؟
أشارت العجوز الحكيمة إلى قمة جبلٍ وقالت :
عليك أن تأخذ فتاتك وتبيت معها في قمة ذلك الجبل ،
وحاول أن لا تقدم لها شيئاً في تلك الليلة سوى الحب ، والحب وحده.
أفض عليها من حبك ، دعها تستيقن بأنك تحبها حقا ، فإن هي شعرت بحبك ، فسيعمل ذلك الحب على التغلب على المرض.
فإذا طلع الفجر وعاشت ، فهنيئاً لكما السعادة الأبدية ، لأنها ستكون قد قبلت بحبك ورضيت بك.
قال سامر : سأفعل ذلك. نعم سأفعل ، ولكن قبل ذلك أريد منكِ يا سيدتي أن تقومي بتزويجنا معا.
أريدها أن تصبح زوجتي قبل أن نبيت سوية على ذلك الجبل.
إبتسمت المرأة وقالت : أحسنت يا ولدي ، هذه أول خطوة نحو نجاح الطريقة.
ثم أشارت العجوز إلى أحد الرجال أن يتصدى لتزويجهما معا ، وأن يقوم البقية بالشهود على هذا الزواج.
فسأل ذلك الرجل وردة إن كانت تقبل بسامر زوجاً لها ، ففتحت الفتاة عينيها رغم آلامها وأومأت بالإيجاب وهي مبتسمة ،
فتمسك سامر بكفها وقبّله ، ثم حمل زوجته على ظهره وانطلق فوراً نحو قمة الجبل حتى بلغه بعد مشقة.
وهناك على القمة ، بات الزوجان ليلتهما الأولى سويةً مع بعض.
ليلةٌ قضاها سامر وهو يضع زوجته في حجره يمسح على شعرها وخديها ويقول :
وردتي الجميلة ، أرجوكِ لا تفارقيني وابقي معي.
فتحاول هي جاهدةً أن تنظر إلى عينيه. تصغي لكلماته وتنعم بدفئ أحضانه.
إقرأ أيضا: التاجر الذي ورثه إبنه حيا الجزء الأول
يخبرها كم هو يحبها فتخبره إن كان يذكر لحظاتهما معاً على البحر ، وأنها باتت تشعر الآن كم هو عميقٌ حبه لها.
ثم يغرقان بالبكاء وهما متماسكان بشدة كأنه يخشى أن ترحل على حين غفلةٍ منه.
الجميع في أسفل الجبل اعتقد أن هذه الليلة هي ليلة وردة الأخيرة في هذا العالم ، لذا فقد تأسفوا لحالها وحال زوجها المسكين.
لكن المرأة العجوز طلبت منهم أن يكونوا متفائلين وأن ينشروا روح التفاؤل حول الجبل لعل المعجزة تحدث وينتصر الحب في النهاية.
بقي الزوجان على تلك الحال حتى تغلب سلطان النوم على سامر المرهق فانقاد إلى غفوةٍ لابد منها ،
وعندما طلع الفجر ، شعر الفتى بأنفاسٍ عطرة تدغدغ وجهه ،
فتح عينيه ويا للمفاجأة! إنها وردة تقف على ساقيها وتنحني نحوه وقد زال شحوبها وامتلئ وجهها نضارةً وحيوية ،
وهي تنظر إليه بابتسامةٍ مذهلة يتدفق منها كل خيرٍ ومحبة.
غمر سامر شعور لا يصدق بالفرح والسعادة ، فقفز على زوجته يقبّل رأسها ويديها ويحمد الله تعالى على نجاتها.
فبادلته هي بالمثل وفرحت لفرحه وشكرته على البقاء إلى جنبها وعدم التخلي عنها حتى آخر لحظة ،
فأخبرها أن حبه لها هو من ساعده على ذلك.
فأثنت هي على حبه الكبير وقالت : أنا محظوظة بك يا أميري ، أنت بالنسبة لي عالمي وكل دنياي.
قال هو : أنا آسف يا وردة لأني لم أكن إلى جنبكِ طوال الوقت ،
من الآن فصاعداً لن أتخلى عنكِ حتى لو اضطرني ذلك إلى هجر مملكتي.
قالت : ولكنهم أهلك وقومك يا سامر.
قال : قومي هم من حاولوا قتلكِ يا حبيبتي ، وأخشى أنهم لن يتوقفوا عند هذا الحد.
وبينما هما كذلك ، وإذا بسامر يبصر عدداً من الفرسان قادمين نحو الجبل ،
ثم قام أولئك الفرسان بالتخييم قرب سفح الجبل.
إقرأ أيضا: حماري بدون ذيل
وبعد لحظات تفاجئ سامر بشقيقه الأوسط وهو يصل إلى قمة الجبل ،
فلما شاهد سامر قال له : أخي سامر ، لقد حضر هؤلاء الفرسان بقيادة شقيقنا الأكبر لغرض قتل وردة وإعادتك إلى المملكة ،
لأن أهلنا يعتقدون بأنها قد سحرتك وأبعدتك عنا ، لكنني انفصلت عنهم وتقدمت عليهم حتى أصل إليك قبلهم وأحذرك منهم ،
فماذا أنت فاعلٌ يا أخي العزيز؟
وضع سامر يده على كتف شقيقه وشكره على تحذيره ،
ثم التفت إلى وردة فشاهدها وهي تذرف الدموع وتقول : سامر ، أعدني إلى الكهف يا سامر.
قال هو : الكهف؟ فكرة جيدة يا وردة ، إنه مكان جيد للإختباء.
إصطحب سامر زوجته إلى الكهف الذي وجدها فيه وهو لا يعلم بأنها كانت قد قررت أمراً آخر ، وليس مجرد الإختباء.
فحالما دخلت هي الكهف. حتى اتجهت نحو وردتها الحمراء التي خرجت منها ،
فجلست عندها تتلمّس تويجاتها ، ثم قالت لسامر دون أن تلتفت إليه :
لم يعد لي مكانٌ في هذا العالم يا سامر.
إستغرب الفتى فقال : وردة ؟ أنتي تخيفيني يا فتاة ، ماذا تقصدين بربكِ؟
هنا توهّجت وردة وبشدة ، فالتفتت إلى سامر وقد احمرّت عيناها بكاءاً وقالت :
سامر ، عد إلى عالمك ،أما أنا فسأعود إلى خاصتي ، الوداع يا أميري الحبيب ، لا تنسَ بأني أحببتك وبكل وجداني.
ثم وقفت الفتاة وسط الوردة الحمراء الكبيرة فاحتضنتها النبتة بتويجاتها وأغلقت عليها.
أعقب ذلك أن صار حجم الوردة يتضائل رويداً رويدا ، حتى عادت لتصبح وردة حمراء صغيرة كباقي الورود ،
أما الفتاة وردة ، فقد عادت لعالمها عالم الورود وما عاد لها في هذا الكون من أثر.
إقرأ أيضا: قصة الحصان الأعمى
بعد أن شاهد سامر ما حصل ، ركض نحو الوردة الصغيرة حتى جلس أمامها وصار يتلمسها بأنامله وهو يسكب الدموع ويخاطبها بالقول :
حبيبتي لِمَ فعلتي ذلك؟ لِمَ رحلتي تاركةً إياي لوحدي في هذا العالم؟
وما زال يخاطبها بتلك الكلمات ونحوها حتى دخل عليه أخيه الأوسط فشاهده وهو بتلك الحالة يرثي زوجته الراحلة ،
فحاول إقناعه بالنهوض والعودة معه إلى المملكة. لكن سامر رفض أن يتزحزح عن مكانه ،
فمكث يطالع الوردة الحمراء حيث توارت زوجته ، وعبراته تسكب بلا انقطاع.
هنا فكّر أخوه بأن يذهب إلى أخيهما الأكبر ويحضره إلى هنا عسى أن يساعده في حث سامر على العودة معهم.
فذهب نحو سفح الجبل والتقى بأخيه هناك وشرح له ما جرى فطلب منه الأخ الأكبر أن يدلّه على مكان الكهف.
لكن عندما أراد الاخ الأوسط العودة إلى الكهف وإذا به ينسى مكانه.
فبحث وبحث وحاول جاهداً الإستدلال على مكانه فلم يفلح ، حتى أعياهما التعب ، فجلسا يستريحان وقد مضى من النهار معظمه.
وبينما هما كذلك ، وإذا بهما يلتقيان بالمرأة العجوز ، فتوسلا بها أن تدلهما على كهف الورود الحمراء.
فقادتهما المرأة حتى بلغوا الكهف المقصود ، فسارع الأخ الأوسط نحو الوردة التي كان سامر يبكي عندها لكنه لم يجده ،
بل وجد مكانه تماماً في المكان الذي كان يجلس فيه وردةً بيضاء ،
بدا وكأنها تميل بحنان نحو الوردة الحمراء وتلتف حولها وتتشابك معها.
قال الاخ الأوسط : ما هذا؟ أين هو سامر؟
عندما شاهدت العجوز منظر الوردتين ، جلست على الأرض وقد دمعت عيناها ثم قالت : إنه أخوكما.
إلتفت إليها الشقيقان وسألاها عمّا تقصده فأجابت :
الوردة البيضاء ، إنه أخوكما سامر ، ياااااه ما أروع حبهما.
فلقد رفض أن يتخلى عن حبيبته إلى درجة أنه قد لحق بها إلى عالمها ،
لا تسألاني كيف استطاع فعل ذلك فلستُ أدري.
كل ما أريد قوله أنني قد أصبحتُ أؤمن أن الحب يصنع المعجزات ،
وبأن أخيكما سامر يمتلك قلباً شفافاً للغاية بحيث جعله مؤهلاً ليرتقي إلى عالم الورود اللطيف.
بعد أن سمع الشقيقان كلام العجوز ورؤية ما صار إليه سامر ، إستغرقا هما أيضاً بالبكاء على أخيهما حتى قال الشقيق الأوسط :
لو لم أنسَ مكان الكهف فلربما استطعت إدراكه قبل أن يرحل.
قالت العجوز : هذا قَدَرُهُ يا بني ، لا شيء يحدث في هذا العالم دون سبب.