إلا بر الوالدين
يحكى أن إمرأة عوراء عاشت الحياة وقسوتها بعد رحيل زوجها وقد خلف لها ولدا بلا سند مادي أو معنوي.
فعملت بعين واحدة لتقوم بتربية طفلها الذي بدأ يكبر.
أدخلته المدرسة وهي تمسح دمعة مراقة في أول يوم مدرسة له ، وهي ذكرى تبقى عزيزة على قلب كل أم وقد بدأ وليدها ينسلخ عنها.
لم تطق صبرا على بعده ، لحقت به إلى المدرسة لتطمئن عليه وتثلج قلبها برؤياه.
وعندما عادا إلى البيت لمحت مظاهر الحزن على وجه وحيدها سألته السبب : فأجاب الطفل بكل براءة الطفولة :
لا أريدك أن تأتي إلى المدرسة.
لقد سخر منك رفاقي وضحكوا على عينك المقلوعة ، لم تهتم الأم كثيرا لملاحظة وحيدها معللة صراحته بعفوية الطفولة.
مرت الأيام والأم تسقي وحيدها من نبع حنانها وعطائها حتى غدا يافعا تفتخر به وتزهو بشبابه وتألقه.
لكنه أصر في كل مناسبة على إبعادها عن حياته لخجله منها ومن عينها المقلوعة كي لا يحرج بشكلها ،
وإذا تصادف ولمحها أحد رفاقه تثور ثائرته ويتفوه بأفظع الألفاظ ويجبرها أن تختفي أمام أصحابه.
تلملم الأم جراح عاهتها في نفسها المطعونة بسيف أغلى الناس ، ولا تملك إلا عينا واحدة للبكاء تذرف دمعها بسخاء حزنا على الدنيا وأساها.
وتدعو لولدها بالهداية وتحاول أن تعوض عن عينها بغداق حنانها وعطفها.
لكنها إكتشفت أن لا سبيل لإقناع ولدها بقبول عاهتها حين فضل الهروب منها ، وأصر على الدراسة في أميركا حيث يتحرر من أمه.
وانقطع حتى عن مراسلتها إلا قليلا عندما يحتاج إلى المال أو المعونة.
مرت الأيام ، سمعت من أهل لها وأقارب أن ولدها قد تزوج ورزق بأبناء ،
هاجت عليها عاطفتها واستجمعت ما تبقى لها من قوة ومال يعينها على السفر إليه ،
إقرأ أيضا: لا يكتمل إيمان المرء حتى يدرك أن كل ما يحدث له من خير وشر
واحتضانه فيفرح هذا القلب المكلوم ولو قليلا بلقياه ، وتلقى أحفادها الصغار وقد ذاب قلبها حبا عليهم!
حملت ما حملت من هدايا وقصدت البلد البعيد ، فتحت لها كنتها الباب ، رحبت بها وأسرعت إلى زوجها تبشره بقدوم أمه.
خرج إبنها إليها متجهم الوجه بادرها بفظاظة الولد العا ق: لماذا لحقتني بي إلى هنا؟ ألم اهرب منك؟ ماذا تريدين مني؟
كأنها صاعقة نزلت على رأس الأم المسكينة ، لم تحتمل الصدمة خرجت من عنده وكادت تقع أرضا ،
تحاملت على جرحها وعادت إلى بلدها حيث الوحدة والكرامة على نفس الطائرة التي أقلتها إليه!
مر الزمن! صار فيه الولد أبا فعرف قيمة الأم والأب ، وفي يقظة ضمير ندم على فظاعته وفظاظته فقرر العودة إلى البلد لزيارة أمه ،
ليستغفرها على فعلته قصد بيتها ليفاجأ بأنها رحلت عنه إلى شقة تكاد تكون مأوى لا بيتا ، لكن المأوى أيضا مغلق ، سأل الجيران عن أمه!
أجابوه: بأن أمه قد فارقت الحياة قبل ايام قليلة لكنها تركت له رسالة :
أمسك بالرسالة بيد إنتابتها رجفة الحسرة ، قرأ فيها :
ولدي الغالي : يعز علي أن أفارق الدنيا دون أن أراك ، لكنها رغبتك أن أظل بعيدة عنك كي لا تنحرج برؤية إمرأة عوراء.
لكن سأحكي لك حكاية أخفيتها عنك عمرا كي لا أحملك فوق طاقتك.
عندما كنت طفلا صغيرا تعرضت لحادث مريع ذهب بعينك ، ولم يكن هناك بديل عن أن اهبك عيني ترى بها الدنيا ،
أما أنا فتكفيني عين واحدة أرى بها وجهك الغالي.