إني وجدت بين الإنسان والبعوض شبها قريبا في صفات كثيرة
إني وجدت بين الإنسان والبعوض شبها قريبا في صفات كثيرة أنا ذاكرٌ لك طرفًا منها وتاركٌ لفطنتك الباقي:
البعوض يمتص من الدم فوق ما يستطيع إحتماله ، فلا يزال يشرب حتى يمتلئ فينفجر ،
فهو يطلب الحياة من طريق الموت ، ويفتش عن النجاة في مكامن الهلاك ، وهو أشبه شيء بشارب الخمر ،
يتناول الكأس الأولى منها ؛ لأنه يرى فيها وجه سروره وصورة سعادته ، فتطمعه الأولى في الثانية ، والثانية في الثالثة ،
ثم لا يزال يُلِحُّ بالشراب على نفسه حتى يُتْلِفَها وَيُودِي بها من حيث يظن أنه يُنعشها ويجلب إليها سرورها وهناءها.
البعوض سيِّئ التصرف في طلب العيش ؛ لأنه لا يسقط على الجسم إلا بعد أن يَدُلُّ على نفسه بطنينه وضوضائه ،
فيأخذ الجالس منه حِذْرَهُ ويدفعه عن مطلبه أو يقتله قبل البلوغ إليه ،
فَمَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ بعض الجهلة من أصحاب المطالب السياسية يطلبون المآرب النافعة المفيدة لأنفسهم ولأمتهم ،
غير أنهم لا يكتمونها ، ولا يحسنون الإحتفاظ بها في صدورهم ، ولا يبتغون الوسيلةَ إليها بين الصراخ والضجيج ،
ولا يمسكون بالحلْقة الأولى من سلسلتها حتى يَمْلَئُوا الخافقين بذكرها ، ويُشْهِدُوا الملأ الأعلى والأدنى عليها ،
وهناك يدرك عدوهم مقاصدهم ، فيعد لها عدتها ، ويتلمَّس وجهَ الحيلة في إفسادها عليهم هادئًا ساكنًا من حيث لا يشعرون.
إقرأ أيضا: أربعة دروس في غاية الروعة
البعوض خفيفٌ في وطأته ثقيلٌ في لذعته ، فهو كذلك الصاحب الذي يَسُرُّكَ منظره ، ويسوءك مخبره ،
يلقاك بابتسامةٍ هي العذْبُ الزلال عذوبةً وصفاء ، والسحر الحلال جمالًا وبهاء ،
وبين جنبيه في مكان القلب صخرة لا تنفذها أشعة الحب ، ولا يتسرَّب إليها ماء الوفاء ، يقول لك:
إني أحبك ؛ ليغلبك على قلبك ، ويملك عليك نفسك ، فإن تم له ما أراد سلبك مالك إن كنت من ذوي المال ،
أو استخدم جاهك إن كنت من ذوي الجاه ، فإن لم تكن هذا ولا ذاك أغراك بالسير في طريقٍ يُسقط مروءتك وَيَثْلَم شَرَفَكَ ،
فإن فاته ما يَشفي به داء بِطنته ، لا يفوته ما يطفئ به نار حقده وحسده.
لا يزال البعوض مُلحًّا في مهاجمتي ، فلا طاقةَ لي بكتابة سطرٍ واحدٍ أكثر مما كتبت.