إبنة الجار الجزء الأول
يحكى في قديم الزمان عن بائع متجول إسمه شعبان يمضي يومه في التنقل بين الأزقة والقرى لبيع بضاعته ،
وكان له أصدقاء من الباعة ، يتعاونون مع بعضهم في الرزق ، وفي آخر النّهار يجتمعون في سقيفة داره ،
يشربون الشّاي ويدخّنون الشّيشة ، ويقصّ كلّ واحد منهم أخبار يومه.
وكان هؤلاء الباعة مشهورين بحسن الخلق ، وصار النّاس يعرفون أوقاتهم ، ويطلبون منهم إحضار كلّ ما يستحقّونه إلى بيوتهم.
أحد الأيّام داروا بين القرى حتى تعبت أقدامهم ، ولم يبيعوا سوى القدر القليل ،
فقال شعبان هناك قرية بعيدة ما رأيكم أن نذهب إليها؟ لعلّ حظّنا يكون أحسن!
وفي الطريق كان هناك جبل ، فمشوا في مسارب ضيّقة حتى وصلوا تلك القرية ، وباعوا كلّ بضاعتهم ، ولم يبق عندهم شيء.
ففرحوا وعرفوا من الأهالي أّنّ التّجار لا يمرّون بهم كثيرا ، وأنّهم مضطرّون لشراء حاجياتهم بأنفسهم.
قال شعبان : أرى أن يشترى كلّ واحد منا حمارا فالقفّة التي نحملها على ظهورنا لن تكفي ، فهذه القرية ينقصها كلّ شيء.
قال واحد منهم : المؤكّد أنّ الطريق الوعر لا يشجّع الباعة عن المجيئ لهنا.
أجاب شعبان : وما يعنينا نحن ، المهم أنّنا سنربح ، والآن هيّا بنا نرجع قبل أن يجيئ الليل.
لكن الجبل كان كبيرا ، ومشوا بين الصّخور والأشجار ، وأحسّوا بأنّ المسافة قد طالت ، ولم يخرجوا بعد من الجبل ،
فقال شعبان : أعتقد أنّنا أضعنا الطريق!
ردّ الآخرون : هذا واضح ، ويجب أن نعود من حيث أتينا ، لكن داروا في كلّ مكان دون جدوى ،
وأحسّوا بالجوع والتّعب ، وبدأ الظلام في النّزول ، فجلسوا على الأرض ليلتقطوا أنفاسهم ،
وقالوا لشعبان أنت أشطرنا ، فابحث لنا عن شيء نأكله ، فربّما تجد أحدا معه كسرة خبز!
إقرأ أيضا: رجل أراد أن يضرب زوجته
مشى شعبان وهو يلعن هذا اليوم ، وقال : كأنّ التّعب لم يكفي ، ليزيد علينا الجوع والبرد ، فلا أحد في هذا الجبل ،
لكنه لمّا همّ بالرّجوع رأى من بعيد نارا ، ففرح وجرى إلى المكان الذي تشتعل منه ،
ولمّا وصل إلى هناك شاهد دار عربي ، وقربها بدويّة تطبخ قدرها على الحطب ، وقد فاحت رائحة الطّعام ،
فسلم عليها ، وسألها إن كانت تريد إعطاءه صحفة من المرق ، وخبزة أو إثنين وسيدفع لها الثمن.
فنظرت له ، وقالت : أنت ضيف ، تفضّل بالجلوس ، وبعد قليل يرجع إخوتي من الحقل ، وتتعشّى معهم!
أجابها : بارك الله فيك ، لكن معي رفاق ينتظرون عودتي!
لفّت له الطعام في منديل ، وأعطته بطانية ، فأخذهم شعبان ، وقد أعجبه جمال البدوية وكرمها ،
لكنّه خجل أن يسألها عن إسمها ، وودّ لو يبقى معها قليلا.
وبينما هو يمشي ، خرج له كلب نبح عليه فجرى ، وفجأة تعثّر ، وسقط في بئر ليس فيه ماء ،
فسمعت البدويّة النّباح ، ولمّا جاءت لترى ما يحصل هناك وجدت شعبان ملقى على ظهره في البئر ، وقد أحسّ بألم شديد ،
فأدلت له حبلا ليصعد ، لكن الفتى كان ثقيلا ، فزلقت قدمها ، وسقطت عليه ،
ووجدها شعبان قريبة منه لدرجة أنّه كان يشمّ عطرها ، أمّا هي فانزوت في ركن ، وصاحت حدّ الله بيني وبينك!
أجابها : أنت في مقام أختي ، وخذي البطانية التحفي بها ، ثمّ قالت له : سيحضر إخوتي ، ولو رأونا معا سيكون موقفي صعبا.
ردّ شعبان : لا تخافي لو لزم الأمر سأتزوّجك!
أخفت البنت رأسها من شدّة الخجل ، فلقد كان الفتى جميل الوجه ، وقويّ البنية ، ثمّ تشجّعت ، وسألته عن حاله وقريته ،
فحكى لها عن نفسه ، وأعجبها حديثه فنسيت ما هي فيه من ضيق ، وأحسّت بالإطمئنان إليه فقد كان لطيفا يحبّ الفكاهة ،
إقرأ أيضا: الشاعر أبو نواس عاش طوال حياته مشهورا بالمجون
وقالت له أنا إسمي حنان ، فابتسم وقال : وأنا شعبان ، فضحكا ، وبدأ الحبّ يتسلّل إلى قلبيهما ،
ثمّ أخرج الفتى صحفة الطعام ، وأكلا مع بعضيهما ، وأحسّا بأنّها ألذّ لقمة أكلاها في حياتهما.
سر في القرية ..
هذا ما كان من حال شعبان ، والبنت حنان ، أمّا إخوتها السّبعة ، فأشعلوا النّار وطبخوا برّاد شاي.
وكان عندهم حرّاث إسمه عمّ عليّ يجيئون به كل موسم ليحرث لهم الأرض ، وطلبوا منه أن يذهب لأختهم ، ويأتيهم بالطعام ،
ويخبرها أنّهم سيتأخّرون قليلا في الحقل.
جاء الحرّاث ، فوجد الدّار فارغة ، وبدأ ينادي على حنان بأعلى صوته ، فسمعته من بعيد ، وصاحت :
أنا هنا يا عمّ علي في البئر الذي قربه الكلب!
وحين أطلّ ، ورآها مع شعبان ، تغيّر وجهه ، لكنّها قصّت عليه الحكاية ، وأقسمت أنّها الحقيقة ،
ثم طلبت منه أن يسترها أمام إخوتها ، وستدفع له ضعف أجرته.
كان علىي جارهم يعرف والديها ، وأنّها بنت عفيفة ، حسنة الأخلاق ، فوعدها بذلك ،
ثم ملأت لشعبان الصّحفة ، واتّفق معها أن يمرّ بعد أسبوع لخطبتها ، ويحضر لها الهديّة التي وعدها بها.
ثم إنصرف بعد أن ودّعها ، ولم تغب نظرة الحبّ في عينيه عن العم عليّ ، الذي فرح لحنان لأنّها يتيمة.
كان عند الحراث إمرأة لئيمة ، كلّما يرجع إلى الدّار تحاسبه على كلّ مليم يربحه ، فقالت له :
هيّا أرني ماذا كسبت اليوم ؟
وحين نظرت إلى المال فوق الطاولة سألته لقد ربحت من الإخوة السّبعة ثلاثة أضعاف ما كنت تأخذه ،
فهل فجأة أصبحوا كرماء معك بعد أن كانوا يستغلونك؟
أجابها الله رزاّق كريم ، والآن دعنا من ذلك ، وأحضري لي صحن كسكسي ، فإنّي أشم رائحته الفوّاحة.
جلس الرجل يأكل ويلحس أصابعه ، لكن المرأة لم تصدقه فهي تعرف بخل الإخوة ،
وقالت له ويحك يا علي هل مددت يدك على مال حرام ، فردّ عليها للقد أجبتك عن سؤالك فدعيني أكمل طعامي ولا تفسدي شهيتي.
إقرأ أيضا: ابنة الجار الجزء الثاني
في الغد لبست زوجة الحراث وذهبت لحقل الإخوة ، فوجدتهم يبذرون الحبوب ، فقالت هل زدتم في أجرة العم علي؟
نظروا إليها باستغراب ، وقالوا : لا ، ولماذا تسألين؟ أجابت : وما المشكلة في أن أسأل؟
ولمّا إنصرفت قال الإخوة : يا لها من إمرأة وقحة ، كيف يطيقها ذلك الرّجل المسكين؟
وما إن رجعت إلى الدّار حتى أمسكت أذن الحرّاث ، وقالت له : إن لم تخبرني من أين أتيت بالمال لفضحتك!
أجابها: الله أمرنا بستر الولايا ، وأنا سترت وليّة ، فدعيني الآن في حالي!
زاد شكّ المرأة ، وقالت : أمامك حلّين : سوى أن تخبرني من هذه التي تتحدّث عنها ، وعلاقتك معها ،
أو أجمع ثيابي وأرجع لدار أبي.
أحسّ الرّجل أنّه في ورطة ، وبعد أن كانت مشكلة ، صارت إثنين ، ولم يجد بدّا من مصارحتها بقصّة حنان بعد أن أخذ منها وعدا بالحفاظ على سرّها.
في الغد جلست المرأة مع جارتها ، فسألتها : لقد سمعت البارحة صياحك فماذا حدث؟
هل كانت أجرة زوجك أقل من المعتاد؟ أجابتها : بالعكس إنها أكثر بضعفين ، قالت الجارة بدهشة :وكيف ذلك؟
ردّت إمرأة الحرّاث وهي تأخذ رشفة من فنجان القهوة ، لقد وجد زوجي تلك البنت حنان في البئر مع رجل غريب ،
ودفعت له لكي يسكت ، أستري ما ستر الله.
لكن تلك الجارة كلّمت جارتها ، وكلّ واحد منهن تنقل ما سمعته ، وتضيف إليه حتى كبرت الحكاية وسمع بها إخوتها السبعة ،
وكانوا من ذوي البأس والسطوة ، وانقسموا بين مصدّق ومكذب.
وفي النهاية إتّفقوا على إبعادها عن الحيّ وقتلها ، وإشاعة أنها ذهبت إلى المدينة عند خالتها ،
وسمعهم الحراث يتحدّثون ، فأسرع إليها وأمرها بالفرار من حينها ، فإخوتها قد عزموا على قتلها ،
وهم في الطّريق إليها ، قالت له : لو شاهدت شعبان ، قل له إنّي هربت إلى الجبل ، فهو آت لخطبتي لكن أفسدت علي فرحتي ،
والله لن يسامحك على فعلتك ، فبكى الحرّاث ، وقال : إنها تلك المرأة اللعينة ، وسأنتقم منها.
يتبع ..