ابنة الجار الجزء الثاني

ابنة الجار الجزء الثاني

خيمة في الجبل

خرجت حنان في ذلك الليل البارد ، ولم تحمل معها سوى كسرة شعير ، ثم هامت على وجهها في ذلك الجبل ومشت إلى أن أحست بالتعب والجوع ،

فجلست تحت شجرة لتستريح وتأكل لكنها سمعت صوتا يقترب منها ، ولما رفعت رأسها شاهدت ذئبا واقفا ،

ثم بدأ يعوي في ذلك الظلام.

فجرت بكل ما تملك من قوة ، وأصبحت الخطوات خلفها كثيرة ، والعواء مخيفا ،

وفجأة تعثرت في غصن وسقطت وقبل أن تغيب عن الوعي سمعت طلقة بارودة ، ثم إقترب منها بدوي ،

وسمع إن كانت تتنفس أم لا ، وشعر بالإرتياح فقد كانت حية ، فوضعها على ظهر حماره وسار بها إلى أن وصل لخيمة من وبر الماعز ،

فنادى أمّه لتساعده في إدخال الفتاة.

كانت المرأة تطبخ حساءا ، فتركت قدرها على النار ، وفرشت لها حصيرة ثم غطتها ، ومسحت وجهها بماء الورد ،

ففتحت حنان عينيها ببطئ ، وقالت : أين أنا؟

ردت عليها المرأة : أنت في أمان يا إبنتي ، أنا إسمي حدّة ، وذلك الفتى هو إبني محمد ، ولقد وجدك لمّا كان عائدا من الصيد!

الحمد لله على سلامتك ، ثم مدّت لها صحفة من الحساء السّاخن ، فأكلت قليلا ، وشعرت بالدفئ في جسدها ،

ثم شكرتهما على كرمهما ، ونامت.

أمّا محمّد ، فبات في مغارة صغيرة يضع فيها عنزاته ، وفي الصباح نهضت حدّة باكرا ، مثل عادتها ،

فأشعلت الحطب ثم عجنت أقراص الشعير ، وجاء محمّد بإناء فيه حليب الماعز ، وبالبيض ،

فشمّت حنان رائحة الخبز ، والتفتت حولها فرأت قطة نائمة بجوارها ، فأخذتها في حضنها ، ومشت إلى المرأة وابنها ،

وسلمت عليهما فدعوها إلى الطعام.

إقرأ أيضا: فضيحة فتاة في الجامعة أمام الجميع

فغسلت وجهها ويديها في عين صغيرة وسط الصّخور ، وجلست معهم ، ومدّت يديها باستحياء للطعام ،

لكن المرأة حلفت عليها أن تأكل حتى تشبع ، فهي مثل إبنتها.

وكانت حنان جائعة فأكلت ، وانبسطت نفسها.

ثمّ سألها محمّد عمّا كانت تفعله وحيدة في تلك الليلة الباردة ، فقصّت عليهما حكايتها ، ثمّ بدأت تبكي ، وتشهق على حظها السّيء ،

فخفّف الصّياد من روعها ، وقال: ستبقين معنا ، وسأبحث عن شعبان ، فلا تحزني!

أمّا عن إخوتك فلن يأتي أحد منهم إلى هنا ، فلا يوجد سوانا في هذا المكان البعيد ،

ونحن أيضا عانينا من الأقارب الذين يعادوننا بسبب ميراث أبي ، فليس هناك أشدّ سوءا من الأهل.

مضت الأيّام ، ولم يظهر شعبان في الجبل ، وبدأت حنان تتعوّد على حياتها الجديدة ،

وكانت الإمرأة في غاية الكرم معها ، وقالت لها : أنت إبنتي التي لم يرزقني الله بها ، وصارت تشتري لها الملابس ،

وكلّ ما تشتهيه ، أمّا محمّد فكان يكسب جيّدا من بيع جبن الماعز ، والبيض للقرى القريبة ، وأيضا الأرانب البرّية التي يصطادها.

وكثيرا ما كانت حنان تخرج معه للغابة فيجمعان الفطر والأزهار ، وبدأت تشعر بالحبّ يملأ عليها حياتها ،

وقرّرت أن تنسى شعبان ، فمن أدراها أنّه يقول الحقيقة؟

وأنّ وعده بالرّجوع مجرّد كلمات ليطمئنها في الوضع المحرج الذي وجدت نفسها فيه ،

وكانت تعرف أنّ محمّد يعشقها ، فنظراته لا تغادر وجهها.

أحد الأيام بينما كانت جالسة تقطع اللحم ، جاءت المرأة ، وجلست أمامها ، ثم قالت لها :

كما تعلمين لم يرزقني الله إلا بولد واحد ، وأنا أريد أن أفرح به وأرى صغاره ، ولم يغب عنّي أنه مهتمّ بك فما رأيك في الزواج؟

إقرأ أيضا: أبي غياث المكي وزوجته لبابة

سأصنع لك خيمة جميلة ، وأجهزّك بكل ما تحتاجين إليه!

تفاجأت حنان ، فلم يمرّ على وجودها هنا سوى ثلاثة أشهر ، صحيح أنّ محمّد فتى لطيف ،

لكن الزّواج يبقى قرارا صعبا ، والأكثر من ذلك أنّها ستعيش في خيمة ، وهي التي تربّت في دار كبيرة فيها البئر ، والسقيفة ،

والسطح الذي يجفّفون عليه ملابسهم والعولة ، لكن الشيء الإيجابي هو أنّها في مأمن من إخوتها الذين يسعون لقتلها.

وبعد تفكير طويل : أجابتها : لقد كنت يتيمة فأصبحت لي أمّا ، وغمرتني بعطفك لذلك فإن الرّأي ما ترينه!

أطلقت حدّة زغروتة طويلة ، وقالت لها : تعالي إلي لكي أضمّك في حضني.

لقاء غريب في السّوق ..

لمّا رجع محّمد في الليل أخبرته أمّه بموافقة حنان على الزّواج ، ففرح ، وقال لها : غدا سننزل من الجبل ،

فهناك سوق كبير كلّ يوم خميس ونشتري لها الثياب والعطور.

لم تنم البنت ليلتها من الفرحة ، فهذه أوّل مرة ستخرج فيه من الجبل ، وهي سمعت أنّ هناك قرى عامرة وبساتين ،

وسترى كلّ ذلك بعينيها ، وتتفرّج في السّوق الأسبوعيّة ، وما فيها من خيرات كثيرة.

في الفجر ركبت حدّة الحمار ، أمّا هي فسارت مع محمّد على قدميهما ، وبعد أن ساروا في مسارب ضيّقة وصلوا إلى قرية كبيرة ،

ورغم أنّ الوقت لا يزال مبكّرا إلا أنّ الحركة كانت نشطة ، والعربات المليئة بالبضائع تتزاحم في الأزقة ،

وهناك باعة جالسين على الأرض وأمامهم أكداس الثّمار والخضار وقد علت أصواتهم ،

قال محمّد : إستريحا قليلا تحت هذه الشّجرة ، وسأحضر لكم الفطائر ، لكن حنان لم تطق الإنتظار ،

وقالت لحدّة : سأقوم بجولة صغيرة ، فكل ما هنا رائع وجميل.

إقرأ أيضا: داحس والغبراء هي حرب من حروب الجاهلية

أجابت المرأة : حسنا ، لا تبتعدي كثيرا ، ولمّا إلتفتت إليها وجدتها قد ذهبت تجري ، فقالت : ويحك ألا تعرفين الصّبر يا إبنتي!

مازال أمامنا يوم كامل أمامنا.

وبينما هي تتجوّل ، سمعت صوتا يناديها ، فتعجّبت ، فهي لا تعرف أحدا هنا ، ونظرت وسط الناس ،

وفجأة شهقت حين رأت شعبان واقفا أمامها وهو يبتسم.

لم تعرف الفتاة ماذا تقول فهذا آخر ما كانت تتوقعه ، قال الفتى لقد أتيت في الموعد كما إتفقنا ،

وذهبت إلى إخوتك لكنهم طردوني ، وبعد فترة قابلت ذلك الحرّاث وحكى لي عن كل شيء ،

فدرت في الجبل ، وفتّشت عنك في كلّ مكان ، وكنت متأكّدا أنّي سأجدك ، فقد أخبرتني عرافة عجوز بذلك ،

هيا قصّي عليّ ماذا حدث لك ، وأين كنت مختفية طوال هذه المدّة؟

إبتلعت حنان ريقها بصعوبة ، وقالت لهّ أنا مخطوبة ، وسأتزوج قريبا ، والآن دعني وشأني!

فاصفرّ لون شعبان ، وسألها هل هذا قرارك؟

تردّدت قليلا ثم أجابت : نعم ، في تلك اللحظة رأت محمّد قادما من بعيد ، وفي يده قرطاس الفطائر ،

فقالت لشعبان : عن إذنك سأذهب الآن!

لاحظ شعبان نظراتها ثم سألها هل ذلك الصّياد محمّد هو من إختاره قلبك؟

إنه فتى جيّد لكن أنصحك أن تعرفي قصّته ، ثم مسح دموعه وانصرف.

همت الفتاة أن تجري وراءه لتسأله ، لكنها قالت : لماذا علي أن أصدّقه؟

فهو قال ذلك ليفسد زواجي ، لما أتى محمّد قال لها بانفعال : لماذا تتجّولين وحدك؟ وكيف تركتك أمّي؟ سيكون لي معها حساب!

استغربت البنت من ثورته فهي لم تبتعد كثيرا ، ثمّ هي حرّة تفعل ما تشاء.

إقرأ أيضا: ابنة الجار الجزء الثالث

بقيت حنان تقلّب الفطيرة في يدها ، ولم تأكل ، فلم يعجبها تصرّف محمّد الذي ظل يرمقها بنظرات غاضبة ،

لكن حدة لاطفتها حتى رضيت ، وأكلت فطيرتها ، ثم داروا في السّوق ، واشترت لها كل ما إختارته ،

وكان محمّد يفتح كل مرّة صرة ماله ، ويدفع الثمن ، فقالت حنان في نفسها :

له كل هذا الخير ويسكن مع أمّه في خيمة! ترى أي سرّ يحاول إخفاءه؟

ثمّ ورد في بالها قول شعبان ، وقرّرت أن تتريّث في الزّواج فهي لا تعرف شيئا عن محمّد وهو يغيب أكثر النهار ،

ولا يخبرها ماذا يفعل.

ولما وصلوا قالت لها حدة سأبدأ الآن في نسج خيمتك ، وستكون كبيرة ، فشكرتها حنان ،

فهذه المرأة تحبّها بصدق ، وتعطف عليها كإبنتها ، ثم فكرت في شيء غريب ، فهل محمّد إبنها الحقيقي أم إستبنته ،

فهو لا يشبهها سواء في مظهره أو طباعه ، وستحتال على المرأة لتعرف منها ذلك.

ثمّ قالت: ما أعجب الأقدار! اللّقاء مع شعبان لم يكن صدفة ، لقد جعلني أفكّر ، وأنظر لما حولي ،

وقد لا تكون الحياة في خيمة وسط الجبل هو ما كتبه الله لي.

يتبع ..

Exit mobile version