ابنة الجار الجزء الرابع
البنت السّجينة
بعد سبعة أيام رجع محمد للمغارة لأخذ باقي الكنز ، لكنه لما دخل لم يجد لا حنان ولا الذهب ، فأخذ يفرك عينيه وهو غير مصدق ،
ثم صاح ولعن نفسه لأنه لم يقتل تلك الفتاة.
والآن هو في موقف صعب فهي تعرف قصّته ، ولو تكلمت ، فلن يمضي وقت طويل حتى يطارده السلطان والناس ،
ولن ينقصهم التهم ، وأقلها يأدّي به إلى ضرب عنقه.
جلس على حجر يفكر ، ثم جمع العظام ودفنها بعيدا ، وبذلك لن يعرف أحد مصدر الذهب الذي بحوزته ،
ثم رجع إلى أمه ، ولما سألته عن سبب شروده أجابها لا شيء أمي ، فقط أحس التعب وسأنام قليلا.
وفي الصباح ذهب إلى السوق واشترى ملابس غالية وركب عربة يجرها حصان ، ودار على الصاغة مقدما لهم نفسه على أنّه تاجر يشتري التحف النفيسة ،
وبينما هو يتجوّل بين دكاكين الصاغة إقترب منه رجل يهودي ، وقال له سمعت أنّك تبحث عن أشياء نادرة ،
تعال إلى دكاني وسأريك شيئا يعجبك!
نظر محمد حوله بحذر ثم سار وراء الرجل الذي غاب لحظة ثم أحضر له قلادة من الذهب عليها نقوش بديعة ،
عرف الفتى فورا أنها من المقبرة ، ثم سأله عن ثمنها ، وإن كان يقدر أن يأتيه بواحدة أخرى.
حكّ اليهودي رأسه ، وقال : لقد باعها لي شخص لا أعرفه ، وهو فتى قمحي اللون له حمار ،
وربّما وجدها في بعض الخرائب القديمة.
واصل محمد طريقه وهو ينظر يمينا ، وشمالا لعله يرى البائع ، وسأل الصاّغة لكن لم يره أحد ،
فقال في نفسه من باع هذه القلادة يعرف السّوق ، ومتعوّد على البيع والشراء ، لهذا سيبيع بقية الذهب في أماكن متفرقة.
غدا سأذهب لسوق آخر ، وسأبحث عنه حتى أجده.
إقرأ أيضا: يوشك أحدكم أن يتعثر هنا بقصته
أمّا حنان فأحسّت أنّها أحسن حالا ، وبقيت تفكّر فيما قاله لها إبن العرّاف ، فهي لم تصدّق حرفا واحدا من كلامه ،
فمنذ أن فتحت عينها وجدت نفسها في دارهم مع إخوتها السّبعة ، ولو كانت حقّا إبنة السلطان ،
فلماذا لم يسأل عنها ولو مرة واحدة؟
ولقد تعلمت طباع البدو ، ولا تعلم شيئا عن حياة القصور.
وحين رجع شعبان في تلك الليلة قال له أبوه : إسمع يا إبني لا يمكنك العيش مع فتاة غريبة تحت سقف واحد ، ماذا يقول الجيران عنا؟
وما دمت تحبها ، فتزوجّها ، وسأعمل لك عرسا أدعوا إليه كلّ أهل الزقاق!
أجاب الولد : كنت أعرف أنّك ستكلمني عن ذلك عاجلا أم آجلا ، ولكن ألا يجب أن نأخذ رأيها الأوّل؟
فنحن بالكاد نعرف بعضنا!
ردّ الشّيخ : دع الأمر لي ، سأعرف كيف أقنعها ، فهي بنت عاقلة وحتى أمّك تحبها.
ثم أخذ في يده طبقا مليئا بالثّمار واستأذن لرؤيتها ، فوجدها تطرّز منديلا فزاد إعجابه بها ،
ووجد الفرصة مواتية فقال لها : ما أجمل الزينة التي صنعتها يداك!
أجابته لقد تعلمت الخياطة منذ أن كنت صغيرة.
مدّ لها الشّيخ برتقالة ، فأخذتها ، ثمّ قال : لقد تعوّدت أنا وإمرأتي على وجودك معنا ، ولهذا أريد أن أزوّجك من شعبان ، وتعيشين معنا!
تفاجئت البنت بكلام الشّيخ ، واحمرّ وجهها ، ضحك الحاج عمر ، وقال :
هل أفهم أنّك موافقة؟
فأومأت له برأسها ، فصاح بفرح ، وجاءت إمرأته تجري ، وعانقتها ، ثم أشعلت الكانون ، ورمت فيه البخور ليجلب لها السّعد.
ومن الغد إكترى شعبان دكّانا ملأه بالبضائع ، في حين إنهمك أبوه وأعمامه في الإعداد للعرس ، ووسعوا الدار ،
وفرشوها بالزّرابي ، وبعد شهر كان كلّ شيء جاهزا ، فأقاموا وليمة ، ونصبوا الموائد ، وجاء النّاس ، فأكلوا وشربوا.
إقرأ أيضا: حكاية هارون الجزء الأول
وفي ذلك اليوم كان محمّد مارّا من أمام ذلك البيت وقد أعياه التعب من الدّوران في الأسواق ،
فسمع أحد الحاضرين يقول للآخر : لقد رزق الله الفتى شعبان من خيره ،
وبعدما كان تاجرا متجولا يقود حماره إلى أبعد القرى صار له دكّان لبيع التوابل ، وتزوج من بنت ليس في الدّنيا أحلى منها.
فتوقف محمّد ، وقد أثار هذا الحوار إهتمامه ، فالصّدفة وحدها هي التي قادته إلى هذه الحارة.
ولما إقترب من الباب ، رأى العروسة ، وأحسّ بالفرح ، فلقد كانت تلك الفتاة حنان.
في مجلس السلطان ..
فكّر محمّد ، ثم قال في نفسه : سأنتظر الفرصة ، وأخطفها ، ثم أطالب شعبان بإرجاع الذّهب المسروق ،
ولمّا أطمئن على المال سأقتلهما معا ، فهما يعرفان الكثير عنّي!
وفي أحد الأيام طبخت حنان كسكسي باللحم ، ثمّ غطّت رأسها وحملت صحفة لزوجها في الدّكان.
وفي أحد الأزقة الضّيقة نفخ إبن العراف مسحوقا أبيض في وجهها ، فدارت بها الدّنيا ، ثمّ جرّها إلى عربة ، وأركبها بجواره ،
ثمّ همز الحصان الذي سار حتى غادر المدينة.
في ذلك الوقت كان الحرّاث متّجها إلى أحد التّجار ليبيعه صابة القمح والشّعير التي تحملها قافلة من الحمير ،
وفجأة لاحت منه إلتفاتة إلى البنت الرّاكبة في العربة ، فاندهش ، وصاح :حنان هل هذا أنت يا إبنتي؟
لمّا سمعت الفتاة صوته ، فتحت عينيها ببطئ ، وردّت: نعم : أنقذني يا عمّ ّعليّ من هذا الفتى ، إنّه مشعوذ ، ويريد قتلي!
نزل الرّجل عن بغلته ، وقال لمحمّد : لن تمرّ من هنا أيّها اللعين ، ثمّ جذبه من العربة ، ودار بينهما عراك عنيف ،
وكانت حنان تصرخ ، وفي هذه اللحظة إلتقط محمّد خشبة ليضرب الحرّاث في رأسه ،
لكنّه سمع حوافر الخيل ولمّا إلتفت شاهد كوكبة من الفرسان تقترب ، وصاح به أحدهم : أنصحك بأن تتوقّف!
إقرأ أيضا: قصة جوري الجزء الأول
أمّا البنت فجرت ناحيتهم ، وحين رآها قائدهم ، قال في دهشة : مولاتي سميّة ما الذي تفعلينه هنا بمفردك؟ ومن هؤلاء؟
تعجبّت حنان ، وتساءلت في نفسها من سميّة هذه؟ فأنا لا أعرفها!
قال القائد : لقد إكتشف أبوك خروجك دون علمه ، وأرسلنا لنعيدك إلى القصر ، وسنأخذ هذين الرّجلين معنا.
أيقن محمّد أنّه في مشكلة كبيرة ، فقد كان يعلم أنّ سميّة هي أخت حنان ، وهما متشابهتان ،
لهذا خلط الجنود بينهما ، ولو حملوه للقصر لاكتشف السّلطان أمره ، وحكم عليه بالموت.
فأخرج كيس المسحوق ، وهمّ بالنّفخ على الفرسان لكن حنان إختطفت عصا الحرّاث ، وضربته على يده ،
فسقط على الأرض يتلوىّ من الألم فهتف الفرسان : مرحى للأميرة ، سننقل لأبيك ما رأيناه من شجاعتك وقوّة بأسك.
صمتت حنان حتى تعلم آخر القصّة ، ومن هذا الرّجل الذي يقولون عنه أبوها ،
لمّا دخلت القصر ، ومثلت في حضرة السّلطان ، بقي يتأمّلها بدهشة ، ثم نادى إمرأته ،
وما أن شاهدتها حتى ضمّتها لصدرها ، وبدأت تبكي وتشهق ، وخنقت العبرات أيضا أباها ،
ثمّ مسح دموعه وقال : تعالي يا حنان ، إجلسي بجانبي لأقصّ عليك حكاية مضى عليها خمسة عشر عاما.
كانت البنت تستمع ثم قالت في نفسها : إذا ما قاله إبن العرّاف كان الحقيقة ، وما أغربها من قصّة!
ثم أمر السّلطان بإحضار محمّد ، فرمى به الحرس أمامه ،وهو مقيد بالأصفاد ، ثم قال له أنت متّهم بالسّحر ، وخطف فتاة هي إبنتي ،
ولهذا سأضرب عنقك ، لكن حنان كانت ترثي لأمّه المريضة ، وقالت لأبيها :
إعلم أنّك قتلت أب هذا الفتى ظلما ، ومن حقه أن يأخذ بثأره منّا!
لم يجد السلطان ما يقوله ، فصاح أبعدوه من أمام وجهي!
ولمّا جاء خارجا شكرها ، لكن ردّت عليه : لم أفعل ذلك إلا لأجل أمّك ، قال لها :
كلّ ما أخذه شعبان من ذهب حلال عليه ، فهو فتى شهم ويحبّك ، وهو تاجر شاطر ولا أستبعد أن يصير شهبندر التجار ،
والآن أستودعك الله.
إقرأ أيضا: حكاية بائع الحكمة
سأل السلطان إبنته ماذا ستفعلين الآن؟
أجابته : لقد تزوجت من تاجر إسمه شعبان ، والآن لي بيت وسط المدينة ، وناس يحبّونني!
فقال أبوها : إذن سأذهب معك لرؤية زوجك ، وآخذ هدية نفيسة له ولأهله.
مشى الموكب في الأزقّة والحارات ومعه الأبواق والأعلام ، واصطف النّاس وهم يهتفون للسّلطان بطول العمر.
أمّا الإخوة السّبعة فإنّهم إستبطؤا الحرّاث ، وخرجوا للبحث عنه ، وفي الطريق شاهدوا موكب السّلطان ،
وأطلت عليهم حنان من نافذة العربة ، ورفعت لهم يدها ، فتجمّعوا ، وقالوا : ويحها ماذا تفعل برفقة السلطان؟
ولا بدّ من عقابها على حادثة البئر.
توقّف الموكب ، وخرج السّلطان ، ثم قال : لهم هذه إبنتي ، ولقد أرسلتها لمّا كانت صغيرة لتعيش معكم ،
أمّا عن الولد الذي كان معها في البئر فهو زوجها الآن ، ولقد أنقذها من الموت.
إقترب الحرّاث ، وقال : لم أرى مثل أختكم في عفّتها وأخلاقها ، ونساء القرية هنّ من يستحقنّ العقاب على طول ألسنتهنّ!
سار الجميع إلى دار الحاج عمر التي إمتلأت بالضّيوف ، وأرسل الشّيخ لإبنه ليقفل الدّكان ، ويأتي لرؤية أصهاره ،
وجاء شعبان يجري ، وهو لا يفهم شيئا ممّا يحصل ، وحين دخل الدار ، وعرف الحكاية تعجّب أشدّ العجب ،
وقال له أبوه : لأنك ولد يخاف الله ، فقد وسّع في رزقك ، وأعطاك من حيث لا تعلم ، الآن قم وانحر أربعة من الخرفان ، لنعد وليمة لضيوفنا.
ولتوزّع أمّك علينا الحلوى وشراب اللّوز ، هيّا فهذه الليلة ستكون طويلة.