الأرملة التي صانت شرفها
عاش قديما أحد التجار الأثرياء مع زوجته نَوار التي اكتشف فيما بعد أنها عاقر لم تنجب له طفلاً يحمل اسمه ، لذا قر قراره على الزواج من فتاة أخرى.
كانت زوجته الثانية وتدعى فريال نعم الإختيار ،
فلقد كانت مؤمنة صائمة مصلّية وعلى قدر عالي من الجمال والأدب.
وسرعان ما أنجبت له صبياً جميلاً في السنة الأولى من الزواج.
لكن التاجر لم يهنئ كثيراً بطفله ، فقد توفي التاجر بعد أيام قلائل من ولادته بسبب مرض مفاجئ.
التاجر كان قد أوصى بمعظم أمواله لولده في حال ولادته ، وهذا ما أثار حفيظة زوجته الأولى نوار ،
فقامت بعمل الدسائس لتبعد فريال وابنها عن طريق تركة زوجها الراحل.
إذ قامت باستدعاء شقيقها سيء السمعة للسكن معها في البيت الذي تقيم فيه ضرتها فريال أيضا.
قام ذلك الأخ بالتقرب إلى فريال ، وأخذ يضايقها لينال مبتغاه في معاشرتها ، لكنها تصدت له ولم تعطه الفرصة.
فغضب وقرر أن يشوه سمعتها بعد أن أفشلت فريال مساعيه.
فاستغل هو وشقيقته خروج فريال من غرفتها فقاما باستدعاء غلاماً لهما أبكم يخدم في البيت وضرباه على ظهره فأفقداه الوعي ،
ثم قاما بسحبه وإخفائه تحت سرير فريال.
وبعد أن عادت فريال إلى غرفتها ، فتحت نوار باب الشارع وأخذت تصرخ وتقول :
يا للفضيحة ، فاجتمع عندها الجيران وهم يتسائلون عن الخبر؟
فأخبرتهم نوار أن فريال تمارس الفجور مع الغلمان ولمّا يجف تراب قبر زوجها بعد.
أسرع شقيقها ودفع باب غرفة فريال فاقتحمه ودخل الجيران خلفه وسألوها أين يختبئ الغلام؟
إقرأ أيضا: أحببت قاتلي
فريال فزعت ولم تدرِ عما يتكلمون ، أصوات الجلبة قد أيقظت الغلام فبقي المسكين تحت السرير يرتجف لا يدري ما يصنع ،
حتى نظروا تحت السرير فوجدوه فسحبوه وهو الأبكم الذي لا صوت له ليدافع عن نفسه ،
ثم انهالوا عليه لكماً ورفساً إلى أن فقد وعيه ثانية ،
تم اقتياد فريال وبحضنها وليدها إلى السجن بتهمة البغاء.
وهناك قام القاضي بزيارتها ، فلما تطلع إليها بهره جمالها ، فطلب من الحرس الإنصراف حتى يحظى بالخلوة معها.
أخبرها القاضي أنها إن مكنته من نفسها الآن فسوف يحكم ببرائتها لتعود إلى بيتها معززة مكرمة.
فأخبرته فريال أنها بريئة أصلاً وأنها لم ترتكب الفاحشة في حياتها أبدا.
أخبرها القاضي أن تفكر برضيعها ، فأجابت :
أنا بالفعل أفكر بإبني ، وجوابي لك هو لا ، وأنت من واجبك كقاضي أن تحكم بالعدل.
غضب القاضي وقال : سأريكِ العدل الذي تستحقينه.
قام القاضي بالحكم على فريال بالنفي والطرد من البلدة ، وأن تنقل جميع أموالها وأموال إبنها إلى نوار.
تم إرسال فريال بعيداً بواسطة سفينة شحن ، لا تملك شيئاً سوى ملابسها التي عليها ،
لكنها كانت صابرة قانعة بمشيئة الله ، لا تفتئ تذكره وتسبحه بكرة وأصيلا ،
حتى ازداد وجهها نوراً بازدياد المصائب عليها.
قبطان السفينة أغراه وجود محكومة بالبغاء على سفينته ، فاختلى بفريال وجر حجابها غصباً عنها فأدهشه جمالها ،
وطلب منها أن تترك رضيعها وتخلع ثيابها فأبت وامتنعت إمتناعاً شديدا.
أخذ الطفل يصرخ صراخاً عاليا ، فاجتذب صوته البحارة ، وفشل مسعى القبطان وخشي على نفسه من الفضيحة ،
فاتهم فريال بمحاولتها إغرائه لأنها زانية وهذا عملها وقال : أخشى عليكم منها أن تغريكم أنتم أيضا.
إقرأ أيضا: هل أنا حرامي؟!
قرر القبطان إلقاء فريال هي وابنها في عرض البحر على متن قارب صغير ، فتم ذلك.
طلبت منهم فريال أن يترحموا بصغيرها على الأقل ، لكن لم يكترث أحد لها.
بعد يومين من التخبط في عرض البحر ، وصل القارب بها إلى شاطئ قرية ساحلية.
حملت فريال رضيعها وسارت قليلاً على الرمال قبل أن تسقط وقد أنهكها الجوع والتعب ،
لكن ما لا تعلمه فريال ، أن سفينة الشحن التي أنزلوها منها تعاني الآن الغرق بسبب العواصف ،
فالله سبحانه قد أنجاها من حيث لا تعلم لكثرة صبرها وشكرها في السراء والضراء ، وما خُفي كان أعظم.
عثر أحد الصيادين على فريال ، فحملها وابنها إلى بيته المتواضع حيث اعتنت بها زوجته حتى استردت عافيتها.
وبينما كانت زوجة الصياد بعيداً عن الدار ، استغل الصياد الوضع فأغلق الأبواب وتقرب من فريال بعد أن جذبه جمالها الأخاذ.
سألها المعاشرة ، فلما رفضت ذلك تعصب وأخبرها أنه أنقذها هي ورضيعها ولولاه لكانا الآن جثثاً على الساحل.
فريال أخبرته أن الله هو المنقذ الحقيقي وأنه حتى لو لم يعثر عليهما الصياد لبعث الله غيره يفعل ذلك.
فالأمر برمته هو ابتلاء من عنده سبحانه وتعالى ليمتحن الصياد ، أيشكر أم يكفر؟
فإذا شكر ، شكر الله له سعيه وجازاه في الدنيا والآخرة ،
وإن كفر ، فالله غنيٌ حميد لا يضره كفر الجاحدين ، ولا بَطر الحاقدين.
وأنها ممتنة له لإنقاذها ورضيعها ، لكن هذا لا يعني أن تدفع شرفها ثمناً لذلك.
الصياد جن جنونه فأمسك بفريال من ذراعها وجرها بعنف لخارج المنزل الى أن أعادها هي وابنها إلى القارب الذي جائت به ،
ثم قام بدفع القارب وإرجاعه إلى عرض البحر.
تأثرت فريال ولم تنفعها توسلاتها له شيئا ، فقلبه كان قد تحجر تماما.
إقرأ أيضا: للحب الممنوع سبب الجزء الأول
بكت فريال طويلا ، واحتضنت صغيرها ونامت وهي تتضرع إلى الله تعالى في خلاصها وخلاص وليدها.
وبعد يومين آخرين في البحر الذي لا يريد أن ينتهي ، وصل القارب إلى جزيرة مجهولة وغير مأهولة.
فنزلت فريال وهي تخشى على طفلها بعد أن كف صدرها عن در اللبن.
شاهدت فريال على الجزيرة عنزة حلوب فحمدت الله تعالى على تسهيل أمرها ،
لكن العنزة هربت من أمامها.
فطفقت فريال تحاول اللحاق بها حتى استقرت العنزة أخيراً في مكان معين ،
حيث تمكنت فريال منها وقامت بحلبها وشرب لبنها لها ولصغيرها ثم قالت لها :
لماذا أتعبتيني بالقدوم إلى هنا ولم تستقري في مكانك؟
آنذاك ، علمت فريال السبب ، فاستغربت بشدة عندما سمعت صوت أنين ضعيف يصدر من مكان قريب.
تتبعت فريال صوت الأنين حتى عثرت على شاب شبه هالك مقيد بالحبال ومرمي على الأرض.
فريال قامت من فورها بمساعدة الشاب الغريب ، ففكت قيوده وجلبت له الماء واعتنت به حتى استرد وعيه وعافيته.
لاحظت فريال عليه سيماء النبلاء فسألته عن قصته فأخبرها أنه أمير لإحدى البلاد ،
(وهي نفس البلاد التي كانت تقطنها فريال) وقد كان من المفترض أن يستلم سدة الحكم ،
لكن ابن عمه أكثر الأشخاص قرباً إليه تآمر عليه واختطفه وعذبه ثم قيده ورماه في هذه الجزيرة المعزولة ليموت من الجوع أبشع ميتة.
الأمير التفت إلى فريال وشكرها كثيراً على إنقاذها لحياته ، فأخبرته أن المنقذ الحقيقي الذي يستحق الشكر هو الله تعالى.
فلولا سلسلة المصائب التي مرت بها فريال وصولاً إلى العنزة التي طاردتها حتى دلتها على مكان الأمير ،
لهي سلسلة حبكتها تصاريف القدر لتنقذ الأمير من موت محقق وتعيده ملكاً على بلاده.
إقرأ أيضا: اليوم يوم زفافي
آنذاك ، سجد الأمير شكراً لله على حسن تدبيره.
ثم أركب فريال وطفلها ومعهم العنزة كذلك في القارب وقام بقيادته عائداً إلى مملكته.
وهناك ، كانت تقام مراسيم عزاء ملكية قد أمر بها ابن العم بمناسبة وفاة الأمير ،
حيث أعلن ابن العم أمام الشعب وبدموع جارية أن الأمير قد مات غرقاً في البحر وأنه قد شهد وفاته.
وبينما هو منهمك في الكلام وإذا بالأمير يصل ويقاطع خطابه ويقف أمامه!
ابن العم اختنق بكلماته واصفر لونه وكأنه قد شاهد شبحا.
الأمير أصدر أمره باعتقال ابن عمه ولي عهده بتهمة التآمر والخيانة ،
فغمرت السعادة جموع الجماهير بعودة الأمير سالماً وتسلمه سدة الحكم.
تلا ذلك أن استدعى الأمير فريال ثم جثا على ركبتيه وطلب منها الزواج أمام حشود الشعب.
بكت فريال في ذلك اليوم كثيراً ووافقت على عرض الأمير لكنها اشترطت عليه أن يظهر برائتها.
الأمير استدعى فوراً نوار وشقيقها وكذلك الغلام الأبكم الذي كان قابعاً في السجون من غير حتى أن تؤخذ بشهادته.
حيث قام الغلام وعن طريق لغة الإشارات بشرح ما جرى عليه وكيف أن نوار وشقيقها قد استدعياه إلى غرفة فريال ثم أفقداه الوعي.
ثم تم استدعاء القاضي الذي كُلف بهذه القضية وسأله الأمير أنه كيف حكمت ضد فريال مع أن القضية متكافئة.
أي أن كلمة فريال والغلام ضد كلمة نوار وشقيقها ،
ولابد من أجل إثبات الزنا أن يرى الشهود المواقعة عياناً حتى يحكم ضد المتهمين.
القاضي لم يحر جواباً فدخل في ضائقة شديدة.
وهنا اقتربت من المحكمة المنعقدة إمرأة من العامة حالما شاهدتها فريال حتى ركضت إليها وعانقتها.
إقرأ أيضا: تقول تقدم أحدهم لخطبتي وكان شرطه الوحيد للزواج هو الإعتناء بوالدته
كانت تلك المرأة زوجة الصياد التي اعتنت بفريال ،
أخبرتها تلك المرأة أن زوجها أبلغها أن فريال قد عادت إلى البحر بمحض إرادتها ، فهل هذا صحيح؟
الصياد زوج المرأة كان حاضرا ، فلما شاهد زوجته مع فريال انخطف لونه فركض وتمرغ على الأرض أمام قدمي فريال ،
وسألها العفو والسماح على ما بدر منه تجاهها وتجاه صغيرها.
تلا ذلك إن تقدم رجل آخر وجثا على ركبتيه أمام فريال وأخذ يسألها الصفح والغفران بدموع جارية.
وكان ذلك الشخص هو قبطان مركب الشحن الذي غرقت سفينته مباشرة بعد إلقاء فريال وابنها من على متنها ،
لأنها أصرت على أن تحافظ على شرفها.
القبطان كان أحد القلائل الذين نجو من الغرق ، وكان كل همه هي الخطيئة التي ارتكبها بإلقاء أم بريئة مع ابنها في غياهب البحر.
فقد أخذت تلك الجريمة تأكل بعقله حتى شاهد اليوم فريال حية ترزق ، فحمد الله على نجاتها وتقدم لطلب المغفرة.
فريال أعلنت أنها قد سامحتهم ولن تتقدم بشكوى ضدهم.
بعد أن شهد القاضي تسامح فريال وعفوها ، طمع هو الآخر بمغفرتها فانضم للإثنان ،
وأصبح ثالثهما في استجداء كريم عفوها الذي لا مثيل له.
ابتسمت فريال الطيبة وشملت القاضي برداء سماحتها كذلك.
هنا وثب أخو نوار والتحق بركب التائبين بعد أن أسقط في يده ، فدهشت أخته وصاحت به : ماذا تفعل؟ أجننت؟
أجاب : بل ما كنتُ أعقل من هذه اللحظة ، كفاكِ مماطلة يا أختاه واستغفري ربكِ واطلبي السماح من تلك الفتاة التي ظلمناها ،
لكن ربها انتصر لها وجعلها فوقنا جميعاً سواء شئنا أم أبينا.
إقرأ أيضا: دهاء إمرأة قصة حقيقية
حينها .. اضطرت نوار مرغمة إلى أن تداهن وتخفض رأس المذلة لضرتها فريال ،
لكن فريال رفعت لها رأسها بيديها الكريمتين بل وعانقتها لتظهر لها أنها ليست من تلك الطينة ولا يمكن أن تكون هكذا طباعها.
هنا انفجرت نوار باكية بدموع صادقة وطلبت السماح حقاً وحقيقة من فريال عسى أن تغسل دموعها جزئاً من آثامها.
تقدم الأمير وهمس لفريال أنه كيف طاوعها قلبها أن تسامح هذه النماذج؟
فأجابت : أخبرتك سابقاً ما هم إلا حلقات ضمن سلسلة الأحداث التي قادتني إليك يا حبيبي ،
فلولاهم لما تعرفتُ عليك ولما كنتُ سأصبح زوجتك ،
فلو عاقبتهم فكأني أعاقب القدر الإلهي الذي دلني عليك.
لذا سأكتفي بالعفو عنهم عسى أن يعفو ربي عني يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال الأمير : ما أعظم قلبكِ يا فريال ، وما أسعدني بكِ يا حبيبتي ،
وسأسجد لله تعالى في كل صباح سجدة شكر لأنه وفقني لتكوني ملكتي التي تجلس بجانبي على العرش.
بعد انصراف فريال ، التفت الأمير إلى الرجال الأربعة وقال :
أرأيتم ؟ هذه هي الفتاة التي أردتم سلب شرفها وتدنيسها ، هكذا يكون بياض قلبها ونقاء ثوبها.
لحسن حظكم أنها سامحتكم لكني لن أفعل ، حيث سأبقي العيون عليكم.
انصرفوا الآن ، وإذا عدتم لمثلها فستكون العقوبة أشد وأقسى.