Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
قصص منوعة

الجائع

الجائع

في زمن كان يسوده الجهل والظلم والخوف والجوع الذي لا يرحم دارت أحداث هذه القصة المؤلمة في إحدى قرى اليمن النائية ،

وبالتحديد في عزلة الأعبوس محافظة / تعز في مكان ما على الجبل ، مازالت بعض أثار البنيان حتى يومنا هذا.

كانت تعيش في ذلك المكان النائي الموحش إمرأة مسكينة وولدها الصغير الذي لم يتجاوز السادسة بعد ،

أما الزوج فلم يكن أحد يعلم عنه شيئا يقال بأنه كان مسافراً إلى الحبشة ولم يصل إلى المسكينة مريم زوجته أي خبر!

فهي لا تعلم إن كان حياً أو أنه قد مات.

كانت المسكينة لديها بقرتها الغالية والتي تحبها بمثابة إبنها فهي سر بقاءهم على قيد الحياة ،

فمنها اللبن وبها تحرث الأرض وتزرعها لتعيش ويعيش ولدها.

كان منزلها صغيرا ومتواضعا ليس سوى غرفتين صغيرتين مبنيتان بكل بساطة من حجارة الجبل مغطاة بالطين من الداخل بشكل عشوائي ،

وفي الخارج كان اصطبل البقرة.

لم يكن بجوارها أي منزل فأقرب منزل لها كان أعلى الجبل حيث يسكن هناك الحاج سلام وبجواره القليل من المنازل ،

وكان سلام هو الوحيد من يتفقدها بين الحينة والأخرى ، أو زوجته.

وذات ليلة من ليالي الصيف الكئيبة ، وكعادتها عادت مريم متعبة من حراثة أرضها منهكة لا تكاد تقوى على عمل شيء ،

لكن محمد الطفل الصغير الذي يرافقها كظلها في كل مكان تذهب إليه كان يبكي ويشتكي من الجوع ،

فما كان منها إلا أن قامت بعجن الطحين وأوقدت النار لتصنع لها ولإبنها خبزا وتركته على النار ،

ثم أخذت وعاء اللبن وخرجت لتحلب بقرتها كي يأكلان هي وابنها الخبز مع حليب البقرة ،

وقد أمسكت بإحدى يديها وعاء الحليب وبالأخرى مسرجتها.

إقرأ أيضا: كان هناك صياد سمك جاد في عمله

وهو مصباح للضوء كان يستخدم قديما مصنوع من الحجر المحفور يوضع القطن في الوسط وحوله الزيت ،

ويتم إشعاله فينير المكان وقد ينطفئ عند أول هبة رياح.

وكالعادة خرج محمد معها فهو لا يفارقها ولا يعرف في حياته أحد سواها.

كان سلام جالساً فوق سطح منزله مستمتعا باحتساء قهوته ناظرا إلى القمر الذي كان لم يكتمل بعد ، لكنه ينير الأرض بضوئه الجميل.

وامرأته تقوم بأعمالها اليومية ، أما هو فقد كان يستمع بهدوء إلى صرير جداجد الليل وهي تردد لحناَ يوحي بالوحدة والكآبة ،

رغم أن الليل كان في أوله.

كان الثعلب يصرخ في الوادي بصوته المشؤوم الذي يبدد سكون الوادي ومع كل صرخة كان سلام يحس بضيق وانقباض في صدره ،

فبحسب معتقداته فصوت الثعلب نذير شؤم.

وكعادتها مريم راحت تحلب بقرتها الحبيبة وهي تدعو الله أن يبارك لها ويطيل عمرها ،

بينما ظل محمد عند باب الاصطبل يبكي متضوراً من شدة الجوع.

لم يكن هو الجائع الوحيد ففي الجوار كان هناك طاهش جائع ( ضبع ) يحوم باحثا عن ما يأكله ويسد رمقه ،

واشتم رائحة الطفل الصغير فاقترب خلسة ورأى فريسته التي يبحث عنها ،

فأبرز مخالبه وبرزت أنيابه الطويلة الحادة ثم انقض على الطفل الصغير.

وكما هي عادة الضباع الخبيثة الشرسة فهي لا تهاجم كباقي المفترسات بالانقضاض على العنق ،

بل تنهش اللحم من أي مكان وهكذا فقد انقض الضبع القاتل ينهش في لحم محمد ويجره بعيدا ،

وصرخ محمد صرخات كانت مخلوطة بالألم والبكاء والجوع ،

فالطفل لم يكن يعلم أنه صار طعاما لمفترس لا يعرف معنى الرحمة لذا فقد كان الطفل يصيح قائلا ( بقصتي بقصتي ) ،

بما معناه خبزي خبزي فقد كان المسكين كل همه جوعه وطعامه.

إقرأ أيضا: الفتاة والمارد الجزء الأول

وما إن سمعت الأم صراخ إبنها حتى توقف قلبها عن الخفقان للحظات ورمت وعاء الحليب من يدها ،

وركضت تصرخ بصوت مهيب يدمي القلوب والأسماع ، صوت ام تفقد ولدها.

صرخة أم مفجوعة بطفلها وأملها في حياتها ، وصرخة بددت صمت الليل والجبال وبثت الرعب في أرجاء المكان.

وانطفأ مصباحها لكنها لم تبالي ركضت وقد تركت كل شيء خلفها ، فهي لا تريد سوى ابنها ، دموعها تنهمر وصوتها الباكي يعم المكان.

تسمر سلام في مكانه واضطربت دقات قلبه وصار كأن طبلا يدق بين ضلوعه ،

وتيبس ركبتاه وسرت قشعريرة في جسدها أحس معه أن شعر رأسه قد استقام واشتعل شيبا ،

وبعد ثوان قاوم سلام خوفها وارتباكه وصاح بصوت خائف كي يطمئن مريم أنه موجود.

وإذا بها تصرخ مستغيثة به وتناديه بـِ اسمه فعلم أن مكروها قد أصاب ولدها.

رمى ما كان في يده وأسرع راكضا حاملا عصاه ويصرخ لكل جيرانه أن يهبوا لنجدة مريم المسكينة.

أما مريم فقد ركضت بلا طريق وبلا ضوء فقد ضاع إبنها وسكتت صرخاته للأبد ،

كانت تركض كالمجنونة حافية حاسرة لرأسها فهي لا تفكر سوى بمحمد غير مبالية بالأشجار والأشواك التي كانت تغيب في قدميها ،

والأحجار التي تصطدم بها فقد فقدت احساسها بالألم في سائر جسدها ، فقد كان الألم يمزق قلبها.

أسرع الرجال والنساء من بعيد راكضين يصرخون وينادون بـاسمها ،

لكن الأوان كان قد فات حين وصولهم ، فقد اختفت مريم وولدها ،

فانقسم الرجال كل في جهة وزوجة سلام وجارتها أيضا ركضن لمساعدة مريم.

وبعد بحث لم يدم طويلا وجدوا مريم مرمية بين الأشجار فاقدة لوعيها والدماء تسيل منها بسبب جروحها.

إقرأ أيضا: ذهبت إلى العمل في إحدى المدارس الداخلية كمعلمة لمادة العلوم

أسرعوا يرشون الماء على وجهها وتمسح النساء دمائها ويضمدن جراحها ،

وبعد لحظات فاقت من غيبوبتها وكان أول ما نطقت به ( ولدي محمد أكله الطاهش ردو لي ولدي )

شهقوا لهول ما يسمعون وتدفقت الدموع وركض الرجال يبحثون علهم يعثرون عليه.

واستمرت المرأتان تبكيان وتواسيانها في مصابها ويخففن عنها ،

ثم أردن المسير بها إلى بيتها لكنها لم تكن تريد العودة بدون إبنها ، ولا تقوى على السير فقد أصبحت كالمجنونة ويرثى لحالها.

بحث الرجال في كل مكان لكنهم لم يعثروا على شيء ولم يتمكنوا من تتبع الدماء بسبب الضوء الضعيف الذي ينبعث من مصابيحهم ،

بحثوا وبحثوا حتى تعبوا وملوا وعرفوا أن الأوان قد فات ، ولن يعثروا على شيء فالمكان واسع ووعر ،

وكان القمر قد غاب وزاد ظلام الليل سوادا.

رغم ذلك واصل الرجال بحثهم فقد شعروا بالخزي إن عادوا قبل انبلاج الصباح وظهور الضوء ،

فكيف سيقدرون على مواجهة دموع مريم الثكلى المفجوعة.

وحين لاح الصباح بحثوا من جديد ورأوا الدماء التي لم يروها من قبل وحاولوا تتبعها ،
إلا انهم لم يجدوا شيء.

فقد أخذ الضبع فريسته وأكلها عن آخرها وأشبع جوعه ، ثم عادوا إلى مريم والخيبة تملئهم والحزن باديا في عيونهم ،

فوجدوها قد فقدت وعيها مرة أخرى والمرأتان تحاولان افاقتها دونما جدوى.

عندها أحضروا جنازة وحملوها عليها حتى أوصلوها إلى بيتها ، واتفقوا على أن تتناوب نساء القرية بالإهتمام بها.

إقرأ أيضا: صانعة العرائس

ظلت مريم وهي تارة تصحو وتارة تفقد وعيها واعترتها الحمى ،

فصارت تهذي وتصرخ تطلب ولدها وتبكي ودموعها لم تتوقف قط عن النزول.

مرت يومان وهي لم تذق طعاما رغم محاولة النساء لإطعامها ولم يدخل بطنها سوى القليل من الماء ،
وفي ثالث الأيام وبينما كانت زوجة سلام بجانبها حزينة لحزنها باكية لبكائها وقد أمسكت بيدها تريد أن تهدأ من حزنها ،

تريدها أن تنسى ما حصل وتعود لحياتها من جديد لكن هيهات أن ينسيها شيء ابنها ،

وهيهات أن تخفف من لوعتها وحزنها أي كلمات.

وأحست زوجة سلام بيد مريم تبرد ومريم ساكنة لا تتنفس فحركتها ، فإذا هي قد فارقت الحياة وقد تراخى جسدها ،

فأسرعت لتبلغ الجميع بموتها فجاءوا ودموعهم تنهمر فغسلتها النساء وكفنوها ،

وذهبوا والحزن يعصر قلوبهم ويقطع أرواحهم ، وهم يقولون قدر الله وما شاء فعل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?