الجزيرة الخضراء الجزء الثالث
صمت النقيب مجدي للحظات وكأنه يفكر في أمر ما ، ثم لم يلبث أن أكمل حديثه مع قائد الجيش قائلا :
إذا سمحت لي أن تأمر مدفعية الجيش الثاني بأن تقوم بضرب موقع الجزيرة بعد عشر دقائق من الأن.
ماذا تقول ، هل جننت؟
ليس أمامي خيار أخر يا سيدي ، فأنا لن أسمح لهم بأن تطأ أقدامهم الجزيرة إلا على جثثنا ، وليكن الأمر علي وعلى أعدائي.
أنت المسؤول عن هذا القرار؟
نعم يا سيدي على مسئوليتي.
قالها وأغلق الخط ، فلقد أقسم على الدفاع عن الجزيرة مهما كلفه الأمر ،
وأشد ما يخشاه أن يصاب ولا يستطيع الحركة ويقع أسيرا في أيديهم ، فهو يفضل الموت مئه مرة على أن يحدث ذلك.
بعد مضي عشر دقائق ، كان هو ومن تبقى حيا من رجاله قد هبطوا للمخبأ الحصين بوسط الجزيرة ،
لم يكد يفعل حتى انهالت قذائف المدافع المصرية على الجزيرة كالمطر ، أكثر من ثلاثة آلاف مدفع تدك موقع الجزيرة بعنف ،
استمر الضرب لعشر دقائق ، ليتوقف بعدها.
كانت الساعة تشير للخامسة والنصف عندما صعد من المخبأ بحذر ليتبين الأمر بالخارج ، صدق حدثه وما كان يتوقعه ،
يعلم جيدا أنه عندما تقوم المدفعية بالضرب فإن قوات العدو سوف تقوم بالإنسحاب من محيط الجزيرة تجنبا لضرب المدفعية.
رآهم وقد ابتعدوا بمسافة مئتا متر عن الجزيرة وقد بدأوا في انتشال القتلى والمصابين ،
عن طريق اثنان من طائرات الهليكوبتر ، وجدها فرصة أكثر من رائعه ليقوم باسقاطهم ،
أمر اثنان من الجنود بالتصويب عليهم وأن يقوموا بالإطلاق عندما يصدر إليهم الأمر.
اتخذ الجنديان وضع التصويب وعندما أعطاهم الإشارة أطلقوا الرصاص بإتجاه الطائرتان ، فانفجرتا على الفور ،
غمرت الفرحة قلوب الرجال ، أخذوا يوجهوا نيرانهم بكثافة على باقي اللانشات والقوارب المتواجدة.
إقرأ أيضا: السلالة المنقرضة
مما أصاب العدو بالدهشة الممزوجة بالذعر ، فقد كانوا يظنوا أن جميع أفراد القوة المصرية قد لقوا حتفهم جراء قصف المدفعية ،
ليتفاجأوا بأنهم كالأشباح قد عادوا من جديد ليكبدوهم مزيد من الخسائر.
بعد مضي خمس دقائق من تبادل إطلاق النار ، أبلغ مراقب الرادار النقيب (مجدي) باقتراب سرب من طائرات الفانتوم باتجاههم ،
أصدر ذلك الأخير أوامره لرجاله بسرعة التوجه للمخبأ ، أسرع الجميع بتنفيذ الأمر باستثناء العريف (محمد إبراهيم الدرديري) ،
الذي ظل جالسا في مكانه على المدفع المضاد للطائرات ، لم يتحرك بقى ثابتا كصخر الجزيرة التي ظل طوال الليل يدافع عنها.
رأى أحد الطائرات المهاجمة في دائرة ضرب النار الخاصة بالمدفع ، ضغط بقدمه على دواسة إطلاق النار ،
فانطلق وابل من النيران باتجاه الطائرة التي انفجرت في الحال ، ليفر بعدها باقي السرب ويعود من حيث أتى.
في السادسة صباحا بينما كان النقيب (مجدي) يتفقد الجرحى والمصابين ليقوم بحصر أسماء الشهداء ومساعده الجرحى ،
رأى أحد الجنود قد شقت بطنه بالطول وخرجت أحشائه منها ، وقد سقطت كتلة صخرية تقدر بعشرون طن فوق ذراعه الأيمن.
لم يكن يتأوه أو يتألم كان صامتا ، وقد قام بفتح عينيه ناظرا للنقيب (مجدي) ،
شعر ذلك الأخير بمرارة كبيرة وهو يرى أحد رجاله على تلك الحال ولا يملك فعل أي شيء لمساعدته ،
كانت عينا الجندي تحمل الكثير من الكلمات التي لم يقوى لسانه على النطق بها ،
شعر النقيب بالحيرة شديدة ، ماذا يمكنه أن يفعل في موقف كهذا ؟
لم تمر بضع ثواني حتى كان أحد الجنود يركض مسرعا باتجاهه قائلا : هناك زروق مطاطي يقترب من الجزيرة.
أمسك النقيب بالمنظار ليتبين هوية القادم ، وجد أن الزورق يرفع علم مصر ، أعطي الأوامر لرجاله بعدم إطلاق النار.
إقرأ أيضا: خطيبي ليس مناسب
لم تمر بضع دقائق حتى توقف القارب في المرسى الصغير المتواجد غرب الجزيرة ،
وصعد القادم الدرج الذي تم نحته من صخور الجزيرة.
تفاجأ النقيب (مجدي) حينما رأى (إبراهيم الرفاعي) واقفا أمامه ، فقام بسؤاله قائلا :
كيف تمكنت من الوصول إلى هنا في وجود ذلك الكمين الذي قاموا باعداده ؟
ابتسم الرفاعي وهو يرد : لقد أغشى “الله” أبصارهم ، لقد جئت للإطمئنان عليكم بعدما انقطع الإتصال معكم.
وأردف قائلا : لا عليك مني ، ولتخبرني هل أنتم بحاجة لأي مساعدة ؟
أخبره النقيب بأمر ذلك الجندي الموشك على الموت ، ذهب (الرفاعي) مسرعا بصحبة النقيب لرؤيته ،
لم يكد يصل إليه ، طلب منه إحضار سكين كبير ، لم تمر دقيقة حتى عاد أحد الجنود مسرعا وهو يحمل السكين.
تناوله (الرفاعي) وطلب من النقيب أن يضع يده على عيون الجندي المصاب ، وأخذ يضرب بقوة عظام كتف الجندي ،
حتى استطاع أن يفصل جسده عن يده التي مازالت تحت الصخرة ، وقام بأخذه معه عائدا من حيث أتى.
بعدما انصرف ذلك الأخير بصحبه الجندي ، أخذ النقيب (مجدي) يدون أسماء الجرحى والمصابين ،
وما أن انتهى حتى تذكر أنه لم يقم بتدوين إسم ذلك الجندي الذي اصطحبه (إبراهيم الرفاعي).
سأل أحد الجنود المتواجدين بالقرب منه ، عن اسم ذلك المصاب ، فأخبره بأنه يدعى( محمد ذكي عبده) ،
قام بتدوين اسمه مع الشهداء فحالته السيئة كانت تدل على أنه موشك على الموت بكل تأكيد.
بعد مرور ثلاثة أشهر وبينما النقيب (مجدي) جالسا في منزله ، سمع طرقات على باب البيت ،
قام بفتح الباب فوجد أمامه شاب في بداية العشرينات ، بادره ذلك الأخير بالحديث قائلا :
كيف حالك يا سيدي؟
رد النقيب (مجدي) قائلا : من أنت؟
أنا المجند ” محمد عبده ذكي” الذي قمتم بقطع ذراعي حتى أعيش.
لم يصدق النقيب(مجدي) أذنيه ، قام باحتضانه بقوة وعيناه مغرقة بالدموع.