الحجاج الثقفي وميمون المجنون
الحجاج الثقفي وميمون المجنون
قال : المسيب بن شريك بلغني أن ميمون المجنون أدخل على الحجاج إبن يوسف ،
وكان ميمون بليغا عابدا فقال له الحجاج أتحسن مثل هذا الكلام وتسمى مجنون.
فقال : يا حجاج إن أهل البطالة إذا نظروا إلى أهل محبة الله سموهم مجانين ،
وقد سبق القول منهم ولو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوكم لقالوا لا يؤمنون بيوم الحساب.
وأنت يا حجاج ! لو كنت تؤمن بالله واليوم الآخر بكلية قلبك ، لشغلك عن أكل الطيب ،
ولبس اللين ، ولكنه إستقذرك ، فطردك ، ولو أرادك لاستعملك.
إن لله عباداً مطهرين مطيعين ، بالعبادة مشتغلين ، وهم ثلاثة أصناف :
فقوماً عبدوه شوقا إليه ، فقلوبهم لا تشتغل بغيره ، لأن قلوبهم قد ألفت ، وسقاهم ربهم بكأس الوداد شربة فقاموا شوقا ،
فلا تحط رحالهم إلا في قرب الله ، فهم خاصته في أرضه.
وقوما عبدوه خوفا من النار ، لما سمعوا قوله تعالى : قووا أنفسكم وأهليكم ناراً
فحذروا وبادروا واجتهدوا خوفاً من النار من تحتهم ومن فوقهم وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم.
فالأفاعي تلسعهم ، والعقارب تلدغهم ، كلما إستغاثوا جدد لهم العذاب ، وهو عدل من الرحمن.
وقوما عبدوه طمعا في الجنة دار أوليائه ، محل أصفيائه.
لما سمعوا قوله تعالى ” سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار “
فصبروا على الألم ، حتى استوجبوا الرضى ، والعفو عما مضى ، فقلوبهم تحن إلى جوار الله سبحانه ،
ليسكنهم في قصور من فضة ، وخيام مزينة ، ومجالس متخذة ، والحور أزواجهم ، والطير يظلهم ، والملائكة تخدمهم.
إقرأ أيضا: من هو الصاحب بالجنب؟
فقال الحجاج يا ميمون ! وصفت الجنة ولم تصف أزواجها ، فهل لك أن أريك شيئاً يذهل عقلك! ويلجلج لسانك ؟
ثم نادى الحجاج يا أملس ! فخرجت جارية معتدلة القامة ، في حسن تام ، عليها قباء رقيق وهي تمشي وتخطر ،
ولها ذوائب قد جللت أكتافها ، فلما نظر إليها ميمون قال :
ويحك يا حجاج ! ما تصنع بهذه الجارية ولها أجل مسمى ، وأيام محصاة ؟
ثم أخرج من كمه رغيفاً يابساً فقال يا حجاج ! أنظر إلى هذا الرغيف ويبوسته ،
إن أطعمته جائعاً ملهوفاً رجوت الله أن يزوجني جارية كأن الشمس تطلع من بين عينيها ،
وكأن الغنج يجري في حركاتها فأُطرب ، وتكلمني فأُنعم ، وأرجو أن أكون قد إستوجبتها في هذا الوقت لقولي الحق ، وتركي الهوى.
قال الحجاج يا ميمون : إمدحني فأحسن جائزتك.
قال يا حجاج ! والله ما أعرف فيك خيرا فأقوله. وإن قلت مالا أعرفه فيك ذممتك ،
ولكني ما أذم الناس لأن في نفسي ما شغلني عن عيب غيري.
قال الحجاج : قد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. قال : أما المال فرده إلى الموضع الذي سرق منه ،
ولا تكن لصاً جواداً تجود به على من إن ذمك
لا يضرك ، وإن مدحك لا ينفعك.
إخلي سبيلي أسأل الله بقوت يغنيني عن نوالك ونوال أضرابك ، فخلى سبيله.