الحذاء الضائع
منذ سنوات لم أستطع تصوير ذلك الحادث حين وقع أمام عيني على الطريق وشاهدته لحظة بلحظة كأني أشاهد فيلما سينمائيا.
كان ذلك منذ سنوات أثناء سفري من مدينة القصير متجها إلى مرسى علم ، وكانت الحافلة السياحي تسير خلفنا.
وفجأة إلتفت السائق في مرآته وكأنه يتابع شيئا سيحدث فإذا به يتوقف فنظرت في الخلف مثله ،
لأرى الحافلة يترنح في منتصف الطريق وعلى وشك الوقوع حتى إنقلب بالكامل إلى الأسفلت وأحدث صوتا رهيبا مع تهشم الزجاج.
وأسرعنا لنفعل أي شيء.
وصلنا لنحاول فتح الأبواب وكانت أصوات المصابين تتعالى ،
كانت الحافلة من الخلف قد فتحت لوحدها فدخلت لأحاول مساعدة الناس للخروج.
وفجأة وجدت هذا الشاب الذي كان ضمن الركاب خرج فلما وجد نفسه سليما لا جرح فيه ولا أي خدش ،
عاد سريعا ليشير إلينا وكأنه يبحث عن كنز يخشى ضياعه.
قائلا ( بكل برود ) ونحن نبحث عن أحياء و موتى بين الكراسي (فردة حدائي لم أجدها ابحثوا عنها)
إنتبهت له ودهشت ولم أعلق ولم أرد عليه وسط مناظر الدماء وحالة الخوف والصدمة التي انتابت الجميع ،
وانصرفنا بعد أن وصلت الإسعاف وانقطعت أصوات المتألمين وركبنا سياراتنا.
وكلما حاولت النسيان جاء صوت هذا الشاب في أذني قائلا فردة الحذاء!
كأني أحاول سر هذه الفردة وما الذي يجعله لا يهتم في هذا الموقف الصعب إلا بفردة حذاءه.
ونسيت الحادث وتفاصيله لكن حذاء هذا الرجل ظل في ذهني إلى هذا اليوم أتأمل في منطقه العجيب وإهتمامه الغريب بفردة حذاءه ،
التي لا أعلم هل وجدها أم أنه مازال حزينا على فقدانها حتى اليوم !
وسألت نفسي كيف ولماذا هذا الإهتمام بفردة حذاء بعد ثواني معدودهة ونجاة قريبة من موت محقق!
هل توقع ذلك الشاب أنه سينجو ودون أن تعفر ملابسه حتى فلم يعد أمامه حينها إلا البحث عن حذائه !
إقرأ أيضا: خيانة زوجة السلطان
هل كان الحذاء غالي الثمن للدرجة التي جعلته لا يهتم بشيء غيره لا بمن كان معه بجواره ولا بنفسه ليحمد الله على نجاته دون أدنى اصابة!
ربما لو جرحت يده أو كسرت قدمه فقط لشغله ذلك عن أي شيء ونسي ماله ولخلع الفردة الأخرى من حذاءه غير نادم ،
لكن رغم تفاهة هذا الفعل وضيقي من إهتمامه بفردة حذاء بين دماء الناس إلا أنه كشف لي كثير من أوجه التشابه بيننا جميعا.
تخيلت أن حذاء هذا الرجل هو كل شيء في حياته وأننا لا نختلف عنه في سلوكنا تجاه الكثير من قضايانا ومشاكلنا ،
فكما اهتم الرجل بفقدانه شيئا عزيزا لديه أنساه كل شيء حوله إهتماما بلغ أكثر من أدراكه بسلامة قدمه التي سيسير عليها بهذا الحذاء.
نفعل نحن مثله كلما استهلكنا طاقاتنا في البحث عن مفقود ولم نستمتع بالموجود.
كلما نسينا وعمينا عما في أيدينا من مكاسب وظللنا نلطم ونحثو التراب على روؤسنا على خسارة قليلة.
نعم كل خسائر الدنيا قليلة وضئيلة أمام ما في أنفسنا وقلوبنا من دين ومبادئ لا تحتمل الخسران ،
كل خسائر الدنيا أحذية أمام أقدامنا التي نسير عليها ولو حفاة!
بل الدنيا كلها حذاء لا تساوي أن تركض خلفها
أو تلهث نحوها كثير من الأحذية فقدناها ،
كانت رخيصة أو باهظة الثمن لكنها هي في النهاية أحذية في القدم لا تساوي مهما بلغ ثمنها قدر وقيمة ،
القدم التي تحملك وتنقلك كل شيء تركته حفظا لكرامتك أو تقديرا لدينك أو إستغناءََا لنفسك.
فانظر إليه كالحذاء لا تعطه قدر أقدامك لا تخطو إليه بأفكارك وتبحث عنه طويلا في أحلامك ،
كأنه الحياة كل شيء قد يضيع وكل شيء في الدنيا معرض للفقدان وقد تفقده دون أن تشعر مثل هذا الحذاء الذي كان ملاصق لقدمك جيدا.
فإن كان هذا الشيء ثمينا فلا أكثر من زهادتك فيه بإدراكك ويقينك أن أقدامك ما ضاعت منك معه ،
فهون عليك الأمر واحمد الله فمنا من تضيع قدمه فيظل يبحث عن حذاء ،
ومنا من يضيع حذائه فيُضّيع معها قدمه ومنا من تضيع قدمه وحياته ويكتفي بحذاء.