الرماة

الرماة

ما أجمل أن تحيا في هذه الدنيا وكأنك تحمل كنانة سهام وراء ظهرك.

كلما مررت بخير ضربت فيه بسهم ، حتى إذا ما انتهت سهامك حان مماتك ولقيت الله بخيرات منسية ، وأعمال مرضية.

أعرف أصحابا لا يعرفون التوقف عن ضرب أسهم الخير ،

بدءا من الحجر يميطه عن الطريق ، وحتى الأذى يميطه عن القلوب!

وحين تسأله إلامَ؟!
يقول لك: حتى تنتهي السهام!

وكنانة أمثال هؤلاء لا تفرغ من السهام حتى تخرج الأرواح من الأبدان.

قيل لعبد الله بن المبارك : إلى متى وأنت تطلب العلم!؟ فأجاب : ( لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم أسمعها بعد! )

وسئل الإمام أحمد :متى يجد العبد طعم الراحة؟

قال : عند أول قدم يضعها في الجنة.

أمثال هؤلاء يفاجئون يوم القيامة بنواتج سهام لم يحسبوا لها حسابا ،

بدءا من الحلوى التي أطعموها طفلا عند المسجد فأحب الله وبيته بسببها ،

وإنتهاءً بكلمة قالوها فقدم سامعها الروح رخيصة لله من أجلها.

كثيرا ما تقرأ في كتب السير : سمعت فلان بن فلان يقول كذا فوقع كلامه من قلبي موضع القبول ،

فكان سببا في هدايتي ، أو صلاح حالي!

ربما مات القائل وهو لا يعلم بهداية السامع!

وربما مات المجاهد وهو لا يعلم بعظيم الفتوحات ، وتوابع الإنتصارات.

فما وراء السهام يعلمه الله ، وما وراء الغرس يعلمه الله.

المهم ألا يراك الله إلا راميا في كل خير بسهم ، ومتقربا في كل موقف بعمل.

مر رجل بنا ونحن صغار يغرينا اللعب عن صلاة العصر في رمضان فقال لنا كلمتين وانصرف ،

وشاء الله أن تكون كلماته سببا في يقظتي من غفلتي ، وانتباهي لأمر آخرتي ، وربما لم يعلم الرجل ذلك.

وكان زاذان مغنيا ، صاحبَ لهو وطرب ، فجلس مرة في طريق يغني ويضرب بالعود ،
وله أصحاب يطربون له ويصفقون.

إقرأ أيضا: أصدق من هدهد

فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأنكر عليهم فتفرقوا ، فأمسك بيد زاذان وهزه وقال :

ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى ، ثم مضى.

فقال زاذان لأصحابه : من هذا؟
قالوا : عبد الله بن مسعود.

قال : صاحب رسول الله صل الله عليه وسلم؟!

قالوا : نعم. قال زاذان : فأُلقي في نفسي التوبة، فسعيت أبكي ، وأخذت بثوبه ، فأقبل علي فاعتنقني وبكى ،

وقال : مرحبا بمن أحبه الله ، ثم لازم زاذان إبن مسعود حتى تعلم القرآن ، وصار إماماً في العلم.

لو أراد الله لهذا العالم أن يكون ملائكيا لكان ، لكنه سبحانه أبى إلا أن يكون بشريا يملؤه الخطأ ،

ويعتري أصحابه التقصير ، حتى يمتحن أصحاب الغرس والسهام.

فلا تفن عمرك في التألم والتأسف ، ارم سهمك وامضي ، وثق أن سهامك محصية ، وأهدافك من الله مرصودة.

وما خير اليوم إلا حصائد الرامين بالأمس ،
فإذا علمت ذلك لم يشغلك ولم يفتَّ في عضدك كثرة الفساد ولا أذى الفاسدين ،

لأن المصباح الواحد ينير الشارع الكبير ، والسهم الواحد ربما يوقع الهدف الكبير ، لكن شريطة أن يفهم الرماة ذلك!

Exit mobile version