السلالة المنقرضة
السلالة المنقرضة
عادت فيولا من العمل مرهقة بعد يوم طويل من التعب والشقاء ، فاستلقت مباشرة على سريرها الذي لم يمضي سوى دقائق قليلة فقط ،
حتى سمعت همسا خفيفا يناديها ، وبأحدهم تشعر به يمرر يده الدافئة على كامل جسدها وهو يطلب منها أن تستيقظ وتذهب معه.
فتبسمت فيولا في حسها واعتقدت أن تلك اليد الحنونة التي توقظها هي أمها ،
فطلبت منها وهي مغمضة العينين أن تدعها ترتاح قليلا ثم ستوافيها ،
ولكن تلك اليد أصرت على أن تأخذ بيد فيولا وتجلسها وتغصبها على السير رغما عنها.
وتحت تأثير النعاس كانت فيولا تسترسل في السير بغير هدى حتى سمعت صوتا آخر.
هذه المرة كان صافيا تعرفه خير المعرفة يناديها من الخلف ،
وعندما انتفضت فيولا وفتحت عينيها جيدا وجدت نفسها تمسك بيد شخص يشبه ظاهريا شكل والدتها.
وعندما استدارت نحو الذي يناديها وجدت الباب الخارجي للمنزل يكاد يغلق وخلفه كانت والدتها واقفة ،
تنظر لفيولا وهي تناديها بأعلى صوتها أن تعود.
عندها حاولت فيولا أن تترك تلك اليد التي أصبحت تمسكها بقوة ترفض أن تتبعها ، فهي أدركت أنها ليست بوالدتها.
التي بدورها طلبت منها تلك المرأة أن تهدأ وعليها أن تسمع كلامها ،
وفي لمح البصر وجدت فيولا نفسها في منزل موحش قديم.
كل أثاثه بال فوقه غبار كثيف ، فبقيت فيولا تدور حول نفسها تبحث عن تلك المرأة الغريبة التي كانت معها قبل قليل ،
فلم تجد غير صداها يرد عليها في ذلك المنزل المهجور.
فأسرعت فيولا نحو الباب لتحاول الخروج منه ، وقبل أن تصل إليه أغلق بقوة تتبعه النوافد بالرصد المتين.
إقرأ أيضا: القصر عامر وأنا جائع!
حينها تملك قلب فيولا الخوف والذعر ، وخاصة عندما ظهرت في زوايا جدران المنزل ثعابين سوداء تزحف من الأعلى للأسفل تتجه ناحيتها.
بدأت فيولا بالصراخ لعل وعسى أحد ما يسمع استنجادها فينقذها مما هي واقعة به ،
ولكن طمنتها تلك الثعابين التي تغيرت أشكالها لتصبح على هيأة إنس ،
أنها مهما صرخت وطال صراخها فلن تجد من يسمع حسها.
وبدلا من ذلك عليها أن تجمع شتاتها وتسمع للكلام الذي يقال لها من قبلهن.
كانت فيولا مذعورة تحضن نفسها بكلتا يديها ملتصقة بإحدى الجدران تتنفس بسرعة ودموع الخوف تنزل بصمت.
انظارها خاشعة لذلكم المتحولين غريبوا المظاهر.
وهي على ذاك الحال ، تقدمت إحداهن نحو فيولا تخبرها أنها عن دون الجميع إختاروها لتكون ملكة الثعابين الرقطاء.
ودورها هو أن تجمع أكبر عدد ممكن من سلالتها أي عائلتها التي تكون بالأصل الفريسة والغذاء الوحيد ،
الذي بقي في العالم أجمع لهن قبل أن تنقرض فصيلتهن على حسب زعمهن.
ذهلت فيولا مما تسمعه من تلك الشيطانة المتحولة أمامها ، وكيف لها أن تطلب أمرا فضيعا كهذا لها؟
فرفضت فيولا بشدة طلبهن ، فاستشاط الجميع من حولها غضبا وتحولوا من جديد لأفاعي رهيبة المظهر ،
تتجه نحوها وهي تصدر من فمها فحيحا مرعبا ، وتخرج من لسانها المشقوق الذي يرمي هنا وهناك سما يرهب به قلب فيولا.
نهضت فيولا من مكانها وهي تبحث عن مهرب تنقذ به نفسها قبل فوات الأوان ، ولكن لا يوجد مفر ،
كل ما فعلته أنها أغمضت عينيها وخبأت وجهها بكفيها حتى لا ترى تلك الأفاعي الشيطانية وهي تهاجمها ،
وما هي إلا لحظات تسمع قرب حفيفهن إليها إذ بصوت آخر يدخل المعركة.
نوع مختلف من الثعابين الكبرى يظهر فجأة يرهب ويبعد تلك الأفاعي عن فيولا ،
التي خافت منه وعادت فعلا أدراجها لتزحف بسرعة للخلف وتختبئ ما بين شقوق الجدران.
إقرأ أيضا: إني لا أتزوج
عندها تحول ذلك الثعبان الكبير ليصبح على هيأة رجل ، فصدمت فيولا بما تراه أمامها ، هل هي تحلم أم أنها حقيقة.
فالرجل يكون بالأصل والدها المتوفي منذ مدة طويلة.
نادى الرجل فيولا بإبنتي وطمنها أنها في أمان ولن تخاف من أي كان ما دام هو موجود ، زاد استغراب فيولا!
كيف يحصل كل هذا ، وهل والدها إنس أم جن أو أي كائن آخر.
علم والد فيولا بما يدور في عقل ابنته دون أن تنطق ببنت شفة وهي مازالت مصدومة بظهور والدها المفاجئ لها.
عندها أخبرها والدها أن لا تستغرب والوقت قد حان كي تعرف كل الحقيقة كاملة.
تحت وطأة الصدمة التي تلقتها فيولا من كل ما يحدث لها ، زادها ذهولا بالحقيقة التي ذكرها إياها والدها.
والدها المفروض أنه متوفي منذ زمن.
أخبرها أنهم ليسوا من جنس البشر ، إنما هم مخلوقات نادرة وجودها عندما تتوفى تصبح حية من جديد على هيأة أفاعي وثعابين متحولة.
ولا يعلم بهذا السر سوى القليل من كبار العائلة.
فسألت فيولا هل والدتها تعلم بذلك ، حينها حنا والد فيولا رأسه تعبيرا عن الإيجاب ،
وبعدها أردف يعترف لها أنه منذ وفاته وهو يحاول من بعيد بمشاركة والدتها حمايتهم بالخفاء عن الجميع ،
حتى لا تقترب منهم الفصيلة المتحولة كي لا تؤذيهم.
ولكن الأن خرجت الأمور عن سيطرته ، وذلك على مدى إحتياج المتحولون إلى المدد كي يبقوا على استمرارية حياة سلالتهم.
وبينما والد فيولا يتحدث مع ابنته وإذ به فجأة يسقط أرضا ،
فانتفضت فيولا من مكانها ناسية كل الخوف الذي تملكها نحوه قبلا وأسرعت إليه ترفع رأسه تحاول إيقاضه ، لكن دون جدوى.
وبعد ثواني عادت إحدى الأفاعي الفارة بالظهور من جديد لتتحول إلى هيأة فتاة ،
هنا فزعت فيولا منها ولكن تلك المتحولة دخلت في الكلام مباشرة معها ،
تخيرها ما بين انقاذ والدها أو تدعه أن يموت للأبد.
إقرأ أيضا: الفتى الذي تنبأ بموته
ودون تفكير طلبت فيولا من المتحولة أن تخبرها كيف تساعد والدها كي يستفيق من غيبوبته ،
فعرفتها كيف تفعل ذلك ثم رحلت من حيث أتت بعدما تحولت إلى أفعى ثانية.
بقيت فيولا متصلبة في مكانها تستوعب ما ذكر أمامها قبل قليل لتنقذ والدها ، ولأن الأمر مستعجل ولا يتطلب التفكير والتأخير فيه.
قامت فيولا لتبحث في أرجاء المنزل الموحش عن أي شيء حاد ،
فوجدت سكين ملتصق في جمجمة كانت مرمية في احدى الزوايا ،
وما بين العدول عن تلك الخطوة أو التقدم أكثر لإنجاز المهمة تطلب من فيولا قوة لا مثيل لها.
كي تأخذ السكين من وسط الجمجمة المرمية أرضا ، وبالأخير فعلت ذلك بعد جهد خيالي.
وعادت بسرعة نحو والدها ومددت كفها للأمام ، وقامت بجرح يدها بالسكين ثم لملمت كفها لتجتمع الدماء به ،
وقامت بسكبه في فاه والدها ، قطرة وراء قطرة حتى أصبح جلده ينبض بالحياة وجسمه يعود للحركة من جديد ، ثم فتح عيونه إلى أن إستفاق كليا.
هنا عانقت فيولا والدها بقوة فهي أبت أن تفقده مرة أخرى ، حتى ولو على حساب استعابها لكل ما يحدث.
أثناءها غضب والد فيولا من تصرفها بإنقاذه ، وأنبها كثيرا بدل أن يشكرها على شجاعتها ، وأخبرها أنها فتحت باب الجحيم على نفسها.
وطلب منها أن تهرب بسرعة قبل أن تشتم الأفاعي الشريرة دمها وساعدها على فتح الباب الموصد بعد أن عرفها على المكان السري ،
لتعود لوطنها وما بين عائلتها ، كما حذرها أن لا تتوقف عن الركض وأن لا ترمي بصرها خلفها ،
ونجاحها بالهروب يعتبر نجاتا لباقي أفراد عائلته.
إحتضنت فيولا والدها بشدة ، ووعدته أنها ستحمي عائلتها مهما حدث ،
وانطلقت تركض بأقسى سرعتها حتى لا تلحق بها الأفاعي الماكرة.
ولكن ما كان خائف منه والد فيولا أن يحدث ، وقع بالفعل.
إقرأ أيضا: لا تنخدع بلطف البعض
ففي لمح البصر اشتمت الأفاعي رائحة غذائها المفضل والنادر لديها ،
وانطلقت كالمجنونة تبحث عنه رغم والد فيولا حاول أن يمنعهن.
وبما أن جسده مازال هزيلا بعض الشيء يستجمع طاقته استطاعوا أن يفلتوا منه بسهولة ،
زاحفين كالبرق نحو تلك الرائحة الشهية التي تسيل لعابهم.
بينما كانت فيولا تركض دون توقف إذ بها تسمع حفيف الأشجار والحشائش من خلفها ومن حولها.
فتيقنت أنها مطاردة في تلك اللحظة وعليها أن تحذر من شرك وغدر الأفاعي السامة ، وهي على ذلك والخوف يتملك كيانها.
فجأة تعثرت فيولا ما بين فروع الأغصان لإحدى الأشجار العملاقة فسقطت أرضا ، وما إن رفعت راسها لتتهيأ بالوقوف ثانية ،
والإستمرار بالركض إذ تجد نفسها محاطة من كل النواحي بالأفاعي مختلفة الأحجام ،
ترعب أي كائن يظن نفسه أنه شجاع ، فما بالك بفتاة لم ترى في حياتها قط شبه أفعى صغيرة.
في تلك الأثناء إستجمعت فيولا قواها وأمسكت بغصن كبير ترهب وتبعد به الأفاعي من حولها ،
التي بدورها لم يزعزع مقصدها أي شيء ، فكانت تزحف بكل هدوء نحو فريستها إلى أن نالت عما تبحث عنه منذ سنين.
هاجمت الأفاعي فيولا كالوحوش القارضة ، ونالت من دمائها ما يجعلها تكون أقوى وتعود نظارة جلدها الخافت إلى اللمعان من جديد.
تغذت على دمائها دون رأفة أو رحمة من الفتاة المسكينة التي لا حول لها ولا قوة ،
كي تنقذ نفسها بنفسها من كل تلك الأفاعي مصاصية الدماء.
فألقوها صريعة دون حراك ، كل شبر من جسدها لها لسعة من أفعى ما ، حتى ألقت آخر انفاسها.
أثناءها عادت كل تلك الأفاعي المهاجمة للخلف تحولت إلى مجموعة من إنس مختلفة الجنس ، تنظر إلى جثة فيولا.
وكأنها تنتظر حدوث أمر ما تتوقعه من البداية ، وهي على سكونها وانتظارها بصبر تام حدث مالم يتوقعه عقل بشر.
فالجثة الهامدة عادت للحياة مجددا لتتحول وتصبح أفعى رقطاء سوداء ذوا قوة وصلابة ،
حينها انحنى لها كل الموجودين هناك مرحبين بملكتهم الجديدة ، ملكة الأفاعي المرتقبة منذ حقبة من الزمن.
إقرأ أيضا: بنت الزبال؟!
أصبحت فيولا من السلالة المنقرضة وجدت نفسها ما بين ليلة وضحاها تترأس مجموعة من الأفاعي نادرة الوجود ،
وكم حزنت إلى ما آلت إليه مؤخرا واشتاقت أن تكون على طبيعتها وسجيتها كما كانت.
الفتاة المرحة ، المسؤولة ، المحببة والمحبة لأهلها وأصدقائها وكل المقربين إليها.
مرت أيام وفيولا تترقب عن كثب سلوك الأفاعي ، وما هي عناصر قوتها وضعفها حتى علمت من عالمها الكثير ،
إلى ان جاء اليوم الذي كانت فيولا تتوقعه.
وهو طلبهن من ملكتهن أن تفدي لهم بضحية أخرى من أفراد عائلتها ،
يكون كبش فداء قادم لجشعهن ، وهو أخاها الأصغر كارلي الذي يعتبر قطعة من روحها.
حينها لم تحاول فيولا رفض طلبهن ، فهي تعلم جيدا إن فعلت ذلك سيقومون بجلبه بشتى الطرق خفية عنها ،
ويقومون بزهق روحه دون رحمة أو شفقة. لذى طمنتهن أنها ستفعل ذلك قريبا وعليهن فقط أن يمنحوها بعضا من الوقت.
في ليلة من الليالي اشتد اشتياق فيولا لأهلها الذي قررت أنها ستذهب لزيارتهم عبر الممر السري الذي عرفها إياه والدها.
وبالفعل زحفت فيولا أسفل الممر الغويص لتظهر مباشرة في احدى غرف منزلها.
وبالضبط غرفتها التي لم يتغير من أغراضها وأثاثها شيئا.
فتأثرت فيولا كثيرا بالصور الموجودة في البراويز على طاولة العمل لديها ،
أصدقائها وصديقاتها وحبيبها الذي توعدا أن يكونا معا للأبد.
بعدها زحفت فوق أعلى جدران المنزل لتصل إلى غرفة والدتها فتطل عبر نافذتها ،
لتجد والدتها مهمومة والدموع تذرف من وجنتيها حاملة احدى صور ابنتها وهي تقبلها.
فأدركت فيولا أن والدتها لم تنسها يوما وهي تتعذب بفراقها ،
أثناءها أرادت فيولا أن تتحول إلى شكلها الطبيعي وتخبر والدتها بكل الحقيقة التي تدركها بدورها جيدا ،
كما أعلمها والدها عن هذا سابقا.
إقرأ أيضا: قصة كرستينا وقدور
ولكن خانتها شجاعتها وعادت أدراجها فهي كلما إقتربت منهم ستؤذيهم أكثر.
فابتعدت لتتوجه نحو غرف اخوتها الثلاثة ، تتفقدهم الواحد تلوى الآخر ،
تتأمل ملامحهم البريئة وهي تقول في نفسها كيف لتلكم الأفاعي البغيضة أن تطلب منها أمر بشع كهذا ،
فهي لن تسمح أن تلمس شعرة واحدة من اخوتها مهما كلفها ذلك.
عند عودة فيولا إلى المكان المتواجد به كل السلالة فزعت عندما وجدتهن ينتظرنها جميعا والغضب يسيطر عليهن ،
يطالبون بما أوصوها سابقا عنه ، فأخبرتهن في اليوم الموالي ستكون غنيمتهن جاهزة.
لذلك في الصباح الباكر جهزت فيولا كل ما تحتاجه ومن بينها جثة حديثة العهد ،
فهي علمت أن ابن عمها توفي عن قريب إثر حادث أليم ، لم يكن الوقت مسموحا لها أن تحزن على أحد حتى ولو كان من دمها.
فكل خوفها كان فقط على إخوتها ، لذلك أخرجت فيولا الجثة من القبر.
وأخذتها إلى المكان المعهود للوليمة التابعة للسلالة ، ثم ألقتها في حفرة عريضة وقامت بقطع الجثة بالسكين إلى نصفين ،
حتى تخرج منها أكبر كمية من الدم تجلب إليها الافاعي برائحتها الشهية لديهن.
وما هي إلا ثواني حتى حضرت جميع السلالة متلهفة لامتصاص أكبر قدر من مصل البقاء لاستمراية فصيلتهن.
وهن منهكين في دماء الجثة إذ تشتعل نيران قوية ملتهبة ذوا علو تحيط بكل الأفاعي تقترب منها رويدا رويدا لتلتهم منها كل مرة مجموعة من الأفاعي حتى احترقت كلها.
هنا تنفست فيولا الصعداء فرحة بنجاح مهمتها وذلك بمساعدة والدها ،
لكن الفرحة لم تدم طويلا إذ أخبرها والدها أنهما عليهما أيضا أن يقوما بحرق أنفسهما.
فهما أيضا من ضمن السلالة وسيأتي يوما عليهما أن يوفران لنفسيهما مدادا للبقاء ، وهنا سيكونان خطرا على العائلة.
ارتعبت فيولا من الفكرة التي رفضتها بالمطلق ، ولكن والدها أرغمها على فعل ذلك غصبا عنها معربا عن أسفه ،
فهو يفعل ذلك حفاظا على أسرته المتبقية.
فأمسكها من يدها بقوة يجرها نحو النيران المستعرة ، وهي تحاول أن تتملص من قبضته لكن دون جدوى حتى بالأخير أدخلها معه في وسط سعيرها.
كانت فيولا حينها تصرخ وتصرخ ولكن أدركت بعد قليل أنها لم تشعر بتلك النيران رغم لهيبها ،
وأن يدها مازالت ممسكة بيد أخرى تجذبها للأعلى بقوة.
وعندما فتحت عيونها وجدت والدتها توقظها وهي تؤنبها كيف لها أن تنام كل هذا الوقت ،
بينما عليها أكحن تجهز نفسها لكي يحضرا مراسم دفن ابن عمها.