السلطان آكل صغاره الجزء الأول
يحكى عن سلطان في بلاد بعيدة ليس له إلا البنات ، وكل ما يرزقه الله بولد يعطيه للسياف لكي يقتله ،
والسّبب في ذلك أنّ عرّافا قرأ طالعه ، وأخبره أن نهايته ستكون على يد ولد من صلبه.
ومن ذلك اليوم ، وهو يعيش في خوف ، وكلّما حملت أحد نسائه أو جواريه ، حبسها في القصر حتى تلد ،
ونصحه الوزراء أن يتوقّف عن قتل أبنائه ، وأن لا يصدّق نبوءات العرّافين.
إلا أنّه لم يكن ينصت لأحد ، ولم يرحم أمّهات أطفاله ، أو يتأثّر لبكائهنّ ، ولهذا سمّته الرّعية آكل صغاره ،
وكلّما خرج في موكب وسط المدينة جرى الناس لإخفاء أولادهم خوفا منه ، لدرجة أنّه لا يرى طفلا واحدا في المدينة.
وكان هذا الأمر يحزنه ، ويصيبه بالغمّ ، لكنّه يفعل أيّ شيء ليحافظ على العرش ، ولن يسمح لأحد أن ينتزعه منه.
وأصبح طبعه أكثر سوءا مع الأيّام ، ولم يعد يكلّم أحدا ، وضاعف عدد الحرس في قصره ،
ودامت هذه الحال زمنا حتى هربت منه نسائه.
فتزّوج جارية عنده إسمها أميمة ، وذات يوم ظهر عليها الحمل ، فحبسها السّلطان في غرفتها ،
وفي تمام الشهر التاسع أنجبت ولدا لم يكن في المملكة واحد أجمل منه ، فبكت ثم مسحت دموعها ،
وقالت له : لن أسلّمك للسّلطان ليقتلك ، هذا يكفي!
أشفقت القابلة العجوز عليها ، وقالت :سأحضر لك طفلا مات أثناء الولادة لكي يراه أبوه ، أمّا إبنك فسيتربّى عندي.
توقّفت الجارية عن البكاء ، وسألتها : أحقّا تفعلين ذلك من أجلي؟
فأجابتها: لا أحد يطيق الظلم ، ثم أنت ليس لك أهل ، وهذا الطفل هو أهلك ، فشكرتها أميمة على معروفها ، ووعدتها بهديّة غالية.
ولمّا جاء السّلطان بعد ساعة أخبرته أنّها رزقت ولدا لكنّه مات بين يدي القابلة ،
ولمّا راه لا يتحرك ، قال : لقد أراحني الله منه ، ثم خرج دون أن يكلم إمرأته أو يسأل عن حالها.
إقرأ أيضا: كيف تتصرفين بهذه الطريقة أمام الناس؟
أطلقت أميمة إسم نعمان على الولد ، وتربّى مع أبناء القابلة ، وكانوا رعاة مواشي ، فرعى معهم ، وركب الخيل في البادية ،
وتسلق الصّخور وتعلّم الصّيد ، والرّمي بالنّبال ، فقوي بدنه ، واشتدّ عوده ، ولمّا كبر ، علم أنّ أباه هو سلطان البلاد ،
وأخذ يلحّ على أمّه برغبته في رؤية أبيه ، لكنّها قصّت عليه حكايتها ، وأنّه لو رآه لقتلهما معا ،
وأيضا القابلة التي ساعدتها.
لكن الفتى قال في نفسه : لمّا يرى أبي فروسيتي سيفرح ، ويسامح أمّي.
وذات يوم ذهب إلى القصر ، وطلب مقابلة السّلطان ، وحكى له عن حيلة أمّه لإنقاذه ، وعن مهارته في الصّيد ،
وقدرته على الرّمي بالسّهام.
كان السّلطان يستمع باهتمام ، ولمّا رأى قوّة ولده نعمان زاد خوفه منه ، وأمر الحرس أن يقبضوا عليه مع أمّه ، ويقتلوهما ،
لكن الولد أفلت منهم ، وأغلق الباب ، ولم يقدر الحرّاس أن يفتحوه ، وجرى إلى أمّه ، وقال لها :
لنهرب بسرعة فأبي ينوي الشر.
ردّت عليه : هيّا نختفي في أحد العربات التي ستغادر القصر! ثم قفزا في إحداها ، وكانت مليئة بالتّبن ،
وفي النّهاية إنفتح باب قاعة العرش ، وجرى الحرّاس ورائهما : وصاح السّلطان : أقفلوا كلّ شيء ، ولا تدعوا أحدا يغادر القصر!
لكن العربة في ذلك الوقت وصلت إلى البواّبة ، فأطلّ أحد الحرّاس ، وقال : لا يوجد سوى التّبن ، دعوها تخرج ،
ولم يصدّق الولد وأمّه بالنّجاة من غضب السّلطان.
إبتعدت العربة عن القصر ، ثمّ توقّفت في السّوق ، ونزلا دون أن يحسّ بهما أحد.
وهناك اشترى نعمان زادا وقربة ماء ، ثمّ غادرا المدينة ، واكتريا جملين ، وقصدا شاطئ البحر ،
وفي نيّتهما ركوب سفينة تحملهما بعيدا عن هذه الديار ، فلم يعد هنا أمان بعد أن إكتشف السّلطان أمر إبنه ، ولن يهدأ باله إلا بقتله.
إقرأ أيضا: أخبرني صديقي أنه يود تطليق زوجته
ولمّا إقتربا من الشّاطئ ، ظهر على الفتى وأمّه الإعياء الشديد ، فهما يسيران منذ عشرة أيام ، ونفذ ما عندهما من مؤونة ،
ومن بعيد تراءى لهما قصر كبير ، فاتّجها إليه ، وطرقا الباب ، لكن لم يفتح لهما أحد ، وبعد قليل إنفتح الباب بمفرده ،
وتعجّب الولد حين لم ير أحدا ، وصاح : نحن مسافران نريد طعاما ، وسندفع ثمن ما نأكل!
قالت أميمة : هذا المكان مهجور ، وأنا لا أشعر بالرّاحة هنا ، أجاب نعمان : على الأقلّ : لن يأتي أحد للبحث علينا هنا.
ولمّا دخلا وسط القصر ، وجدا مائدة عامرة بكلّ ما لذ وطاب من الطعام ولا يزال البخار يتصاعد منه ،
فاقترب الولد وهو لا يصدق عينيه ، وأخذ قطعة صغيرة من الدّجاج تذوقها بطرف لسانه ، ثم قال :
عظيم إنها ساخنة وعليها توابل الهند ثمّ جلس يأكل بنهم.
أمّا أمّه فبقيت خائفة ، وهي تنظر يمينا وشمالا ، في الأخير غمست يديها في الطعام وأكلت حتى شبعت ،
ثمّ صبّ لها إبنها ماء الورد ، فشربت ولم تنس أن تخرج صرّة من الدّنانير ، وضعتها على الطاولة ،
وقالت: الآن أريد أن أنام ، وفتحت أوّل غرفة وجدتها ، وارتمت على السّرير ،
بينما بقي نعمان يتجوّل في القصر ، كان كلّ شيء مرتّبا ونظيفا ، لكن لا وجود لمخلوق ، وزاد ذلك في إستغرابه ،
ثم أغلق أبواب القصر ، وجلس يفكّر إلى أن غلبه النّوم.
بقي نعمان إبن السّلطان وأمّه يومين في القصر ، في الصّباح يجدون الفطور : الخبز والجبن والحليب ،
وفي المساء العشاء من أصناف الطيور المشوية ، وأنواع الأسماك ، والفواكه ، والأشربة.
قالت الأم : لا بدّ أنّ صاحب القصر شخص كريم ، لا يريد أن يظهر لنا ، وهو لم يأخذ حتى المال الذي تركناه على الطاولة!
أجاب الفتى : هذا يعني أنّنا لا يمكن أن نبقى هنا طويلا ، وعلينا أن نغادر قبل أن يرسل لنا أحد خدمه يأمرنا بالرّحيل.
قالت الأمّ : عندئذ سأترجّاه ليتركنا مقابل أن أشتغل عنده ، فأين تريدنا أن نذهب يا نعمان؟
فليس لنا كثير من النقود ، وأنت لا صنعة عندك!
قال : صنعتي هي الحرب ، فأمسكت بيديه ، وردّت : يا لها من فكرة سيّئة ، فإذا متّ ، فمن أجد قربي وقت الشّدائد؟
إقرأ أيضا: زوجتي الثانية
لا يا إبني ، لا أرى حلاّ الآن سوى البقاء ، ومن أكرمنا بطعامه سيكرمنا بجواره.
مضت الأيّام ، ولم يظهر أحد ، لكن خيّل لنعمان أنّ هناك من يسترق النظر إليه ، وفي أحد الليالي إستيقظ ، فرأى بنتا تهرب بسرعة ،
وتختفي في الظلام ، فرك عينيه من شدة الدّهشة ، ثم نهض من فراشه ، وهمس : هل :هناك أحد؟
خرج من الغرفة ، وأطل في الرّواق الطويل فشعر برعشة في جسده ، وعاد إلى مكانه ، وحاول أن ينام فلم يستطع ،
وخيّل إليه أن عيونا كثيرة تراقبه ، وفي الصّباح سأل أمّه : هل تؤمنين بالجن؟
قالت له نعم : لكنّنا لا نراهم ، ويقال أنّ لهم في أرجلهم حوافر ماعز!
لكن لماذا تسأل يا نعمان؟ أجابها بشرود : لقد خطر لي ذلك البارحة يا أمّي.
وفي الليل وضع أمام الباب غصنا صغيرا جافّا ، ثم إنتظر طويلا حتى غلبه النّوم ،
وفجأة إنتبه لصوت تكسّر الغصن فأفاق من نومه ، وعلى ضوء القمر شاهد بنتا صغيرة زرقاء العينين ينزل شعرها الطويل حتى قدميها.
ولمّا أدارت رأسها ، فوجئت بنعمان أمامها ، فحاولت الهرب لكّنه صاح : إنتظري!
عليك أمان الله وسليمان ، فقالت أعذرني إن أخفتك ، فأنا إبنة صاحب القصر ، وإسمي ظريفة.
ردّ الولد ، وأنا نعمان ، قالت له : سأذهب الآن ، وإلا سيغضب أبي إذا سمع أني أخرج بالليل دون علمه.
أراد أن يسألها عن أهلها لكنها اختفت بسرعة.
في الصباح لمّا جلس للأكل ، رآها تطلّ عليه وتبتسم ، فقال لأمه : سأعّرفك على أحد ، ثم ناداها ،
فجاءت ولمّا شاهدتها أميمة صرخت هل أنت إنس أم جنّ؟ قال نعمان : وهل ذلك مهمّ؟ الأّوّل يجب أن نشكرها على ضيافتها!
قالت الأمّ : أعذريني يا إبنتي ، فلقد فاجئني قدومك ، وأنا ممتنّة كثيرا لك ولأهلك على كرم ضيافتهم ،
وأرجو أن نبقى عندكم قليلا ، وأنا مستعدّة لكل ما تأمرون به.
إقرأ أيضا: السلطان آكل صغاره الجزء الثاني
أجابت ظريفة : لك ما تريدين يا خالة! فهذا يسعدنا كثيرا.
وبعد الطّعام تجوّلت مع الولد في القصر ، وقالت له : إن أباها ملك الجنّ ، وإنّه لم يرزق سواها ،
وهذا القصر كان لفلاح غنيّ ، وذات يوم أصاب هذه الأرض وباء فمات جميع النّاس ، وجئنا منذ زمن طويل وأصبحت كلها لنا ،
ونحن نطرد كل من يقترب من القصر ، ولما جئت وطرقت الباب ، نظرت إليك من النافذة ، وأعجبني جمالك وقوّتك ،
فجريت إلى أبي الملك ، وألححت عليه ليدخلكما ، وكان الجن يراقبونكم خفية ،
ولمّا رأى أبي أنكما لا تلمسان شيئا من التحف والجواهر التي يمتلأ به القصر ، وافق على بقائكما.
فرح نعمان بصديقته ، فقد كانت تحبّه كثيرا ، وكانا يسهران كلّ يوم ، ويحكي لها أخبار الإنس ، وقصّ عليها حكايته مع أبيه ،
فتألّمت لذلك ، وفي الصّباح جاء الولد لأمّه ، وقال لها : ما قام به السّلطان في حقّ إخوتي هو ظلم ، وعليه أن يسامحك ،
ويفتخر بي أمام الناس!
لكن الأمّ قطّبت جبينها ، وقالت : يبدو أنّك لم تستوعب الدرس المرّة الأولى ، فأبوك همّه الوحيد هو العرش ،
ولو علم أنّنا هنا سيبعث ورائنا جيشه ، وحينئذ ستخسر هذه الحياة الرائعة ، وصديقتك الجنّية.
يتبع ..