السلطان آكل صغاره الجزء الثاني
السلطان آكل صغاره الجزء الثاني
لكن نعمان أصرّ على رأيه ، وقال : لا خير في ولد لا يعترف به أبوه ، وسيفعل ذلك رغم أنفه!
وأنا أعرف كيف أنزع تلك الوساوس التي زرعها العرافون في عقله.
ثمّ كتب له رسالة فيها أبيات من الشعر ، وغافل أمّه وأرسها مع قافلة كانت تمرّ قريبا من القصر ، وجاء فيها :
قتلت إخوتي دون حقّ
وقاتل النفس لو علمت آثم
وطردت أمّي ليلة مطر منهمر
ولم تخف في الله لومة لائم
فتب إلى خالقك وسبّحه
كيفما كنت راكعا أو قائم
أعطانا الله من خيره قصرا
وخير الرّزاق دائم
أنا إبنك ودمك وأنت أبي
وما ينفعك العرش وحفنة من دراهم
لمّا وصلت الرّسالة إلى السّلطان أعجبه الشّعر ، وقال في نفسه : لقد جمع هذا الولد خصال الشّجاعة وفصاحة الكلام ،
ولو علمت به الرّعية ستحبّه ، لا بدّ من حيلة لقتله قبل أن يعظم أمره!
ثمّ أرسل إلى عجوز السّتوت ، وأخبرها بنيّته في التّخلص من نعمان ،
فقالت له : تظاهر بأنّك رضيت عنه ، واطلب منه أن يأتي بالنّخلة التي شطر منها تمر ، والشّطر الآخر رمّان ،
وسيكون في ذلك هلاكه ، فيقال أنّها تنبت في بلاد البشر ذوي العين الواحدة ، وكلّ ما يوجد هنا عجيب وغريب.
فكتب إليه :
سأرضى عليك يا نعمان
إذا أتيت بنخلة شطرها تمر
والشّطر الآخر رمّان
ثمارها لا تنتهي
ولو أكل منها ألف إنسان
وصلت الرّسالة إلى إبن السّلطان ، ولماّ قرأها إبتهج ، لكن الجنّية الصغيرة صمتت ، ولم تقل شيئا ، وحين سألها عن سبب صمتها ،
قالت له : والله ما ردّ عليك أبوك إلا ليقودك إلى حتفك!
قل لي هل تعلم أين توجد تلك النخلة الغريبة؟ أجابها : ومن أين لي أن أعرف؟
قالت ظريفة حكت لي جدتي أنه توجد واحة في وسط الصحراء ، لا تظهر سوى بضع مرّات في السّنة ، ثمّ تختفي عن الأنظار ،
ورآها أحد البدو ، ولم ينج إلا بشقّ الأنفس حينما طارده بشر لهم عين واحدة ،فسألها كيف يمكن الذّهاب إليها؟
إقرأ أيضا: أمي هناك ما أريد إخبارك به
أجابته : لا يعلم ذلك سوى البدوي الذي رآها ، وهو يسكن في مكان ما من الصحراء ، ولا أحد يعرف عنه شيئا.
ترجّاها أن تساعده ، فأجابته : تلك الصّحراء مترامية الأطراف ، وكلّ من يدخلها يختفي إلى الأبد.
لكنّه ألح عليها حتى وافقت على طلبه، وقالت : سأسئل ساحرتنا فهي عجوز لا أحد يعرف عمرها ،
ورأت في حياتها كثيرا من الغرائب.
وفي المساء جاءته وهي تبتسم ، وقالت له : لقد أخبرتني السّاحرة عن كيفية الوصول هناك ،
والجنّ عندهم إبل تقطع مسافة شهر في يوم واحد ، وقد وافق أبي على إعطائك أحدها ، وتجهيزك بما يلزم للرّحلة.
في الفجر تسلّل نعمان ، وركب جمله وفي خلال يومين وصل لتلك الصّحراء ، وبدأ يسأل الناس عن البدوي الذي رأى الواحة العجيبة ،
وأمضى أيّاما وهو يدور ، ويسأل حتى تعب ولفحت وجهه الشّمس الحارقة.
وذات يوم رأى رجلا يحاول إصطياد شيء يأكله ، لكنه كلما رمى فريسة أخطئها ، وانتظر نعمان حتى رأى أرنبا يجري بأقصى سرعة ،
وصوّب إليه قوسه فقال البدوي : دعك منه ، فلا أحد يقدر أن يصيبه ، لكن الفتى نظر إلى الأرنب وحسب حركاته ،
ثمّ أطلق سهما صفرّ في الهواء وأصاب رأس الأرنب ، فتعجّب البدوي ، وصاح : لم أر في حياتي رمية بهذه الدّقة!
تعال إلى خيمتي ، وستطبخ لنا إمرأتي قدرا بهذا الأرنب ، وتعدّ لنا أقراص الشّعير.
وفي الطريق لم يتوقّف البدوي عن تأمّل جمل نعمان لشدّة حسنه ، ولمّا وصلا ، سأله : ما الذي جاء بك لهذه الصّحراء القاحلة ،
وأنت لا تزال فتى يافعا؟
إقرأ أيضا: الجزيرة الخضراء الجزء الأول
حكى نعمان عن قصته ، فقال البدوي يا لها من مصادفة عجيبة ، فأنا هو ذلك الرّجل ،
ولقد هبّت في أحد الأيام عاصفة قوية رمتني بعيدا عن طريقي ، وهنا رأيت تلك الواحة ، فدفعني الفضول للإقتراب منها ،
وكان فيها أشجار غريبة الشّكل وأهلها لهم عين واحدة.
ولمّا رأوني حاولوا قتلي ، لكني هربت في الصّحراء ، ولم يقدروا على اللحاق بي.
قال نعمان : أريدك أن تدلّني على تلك الواحة ، صرخ البدوي في خوف : لو ذهبت إلى هناك سيفتكون بك!
فأخرج نعمان صرّة من الذّهب ، فقال : حسنا ، دوري أن أوصلك إلى هناك فقط ، وسأنتظرك قليلا ، فإن لم تجئ ، ذهبت في حالي ، هل فهمت
لقد حذرتك فلم تسمع كلامي ، وستظهر الواحة خلال أربعة أيام ، غدا صباحا نشدّ الرّحال إلى هناك ،
والآن هيّا إلى الطعام ، فلقد فاحت رائحة الأرنب.
أكل نعمان ، وأعجبه الطّعام فلقد ملّ من أكل التمر والسّويق ، ثمّ جاء الشّاي فأحسّ الولد بالرّاحة بعد الأيّام التي أمضاها وهو يدور في الصّحراء ،
وفكّر في حيلة يدخل بها إلى الواحة ، وفي الأخير قال لمّا أصل سأتدبّر الأمر ولن أرجع إلا بالنّخلة.
وفي الغد نهضا فجرا وركبا جمليهما وسارا ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع ظهرت لهما الواحة من بعيد وكانت فيها الأشجار والمياه ،
وتحلق في سمائها الطيور ، ثمّ توقّف البدوي ، وقال : سأرتاح تحت تلك التّلة ، وسأنتظرك حتى ينتصف النّهار ، ثمّ أرحل ،
هل مازلت مصرّا على الذّهاب؟
فأومأ له نعمان برأسه ، ثمّ همز جمله وسار ، ولمّا إقترب رأى غديرا فيه جارية تستحمّ وتغنّي ، فوقف ينظر إليها بإعجاب ،
وفجأة إستدارت إليه ، فرأى أنّ لها عينا واحدة في جبينها ، أمّا الجارية فقالت له : ويحك أيّها الغريب ألا تستحي من النظر إلي؟
إقرأ أيضا: الطفل والإصبع الذهبي الجزء الأول
أجابها : وما يمنعني من ذلك؟ فنحن لسنا من نفس الجنس! ثمّ إنّي أجد أنّك جميلة!
أحسّت بالزّهو، وقالت له : أحقّا تعتقد ذلك؟ ثمّ خرجت من الماء ، ووضعت ملابسها ، ولمّا إقتربت منه رأت أنّه حسن المنظر ،
وفي مثل عمرها ، فأعجبها ، وقالت له : نحن في العادة نقتل كلّ من يقترب منّا ، لكنّي لن أفعل ذلك ، فلا يبدو عليك أنّك لصّ ،
ومظهرك يوحي أنّك من الأمراء ، أنا إسمى سعدى ، وأبي سيّد القوم ، تعال إليه ، فهو رجل ذو مروءة وشهامة ،
وحين رآه أفراد القبيلة تجمّعوا حوله ، وأخرجوا مخالبهم ليقتلوه ، لكن البنت قالت :
إنّه في حمايتي ، والويل لمن يقترب منه.
دخلت سعدى إلى أبيها وقالت له : ضيف بالباب! فتعجّب ، وقال : منذ متى يأتينا الضّيوف يا إبنتي ؟
وخرج لإستقباله ، ودعاه للدّخول ، ثمّ أمر بإعداد طعام للضّيف ، وسأله من أيّ البلاد أنت؟
وما الذي أتى بك إلى هذا المكان البعيد؟
فأخبره بقصّته ، فحكّ الشّيخ ذقنه ، وقال : دعنا نأكل الأوّل ونشرب ، فلا شك أنّك متعب من السّفر.
وبعد أن إستراح نعمان ، قال الشّيخ : أعطيك النّخلة على شرط أن تهديني شيئا.
فأخرج له صرّة الياقوت ، فأجابه : ما أريده هو إحدى عينيك!
ترّجاه الفتى ، لكن الشّيخ أصرّ ، وصاح : لن تخرج من هنا قبل أن أحصل على ما طلبته.
ثمّ أمر بحبسه في أحد الخيام ، فجاءته الفتاة ، وقالت له : كيف يمكنني أن أساعدك؟
فأجابها : اذهبي للتّلة ستجدين أحد رفاقي ، قولي له أن يقترب من هنا ، فإذا رآه القوم طاردوه ،
وقبل أن تخرجي إقطعي قيودي ، والياقوت هو هديّة إليك!
وبعد قليل سمع الصّيحات بين الخيام ، فأطل برأسه ، ورأى الأغوال تجري وراء البدوي ، وترميه بالحجارة ،
فأسرع إلى جمله ، وركبه وفي الطريق قلع على نخلة صغيرة من جذورها ، وفرّ بسرعة البرق محدثا كثيرا من الغبار خلفه ،
ولحق بالبدوي الذي قال : والله ما جملك من إبلنا ، فقد عرفت ذلك منذ أن رأيته ،
إقرأ أيضا: السلطان آكل صغاره الجزء الثالث
ثمّ سار معه وأراه الطريق وما هي إلا يومين حتى وصل إلى القصر فوجد أمّه في أسوأ حال من القلق عليه ،
ولمّا شاهدته جرت إليه ، وهي تقول : لقد نصحتك بالابتعاد عن أبيك ، لكنّك لم تسمع كلامي ،
ويوما ما سيقتلك ذلك اللعين ، ويتركني أبكي بقيّة عمري على موتك!
أجابها : ليس هذا وقت اللوم ، فلقد أحضرت ما طلب أبي ، ثم خرج من القصر ، ومشى قليلا حتى وجد مكانا أعجبه ،
زرع فيه النخلة ، وسقاها ، وسمّدها ، وفي الصّباح تعجّب لمّا وجد أنّها قد كبرت.
وفي اليوم الثّاني ظهرت العراجين والأغصان ، وفي الثّالث امتلأت بالتّمر والرّمان وجاء الناس فأكلوا ،
ورموا النّوى فنبتت بعد أيام أشجار صغيرة ، وقيل له أن تلك الأرض مدفون فيها وليّ صالح ونموّ الأشجار بتلك السّرعة هو من كراماته.
لمّا سمع السّلطان بما حصل ، نادى عجوزة السّتوت وقال لها : ما أغبى نصيحتك ، كنّا ننتظر موته فنجا ،
وبدل أن يكون له نخلة صار له بستان ، وهو الآن يطعم الفقير ، ويكسي المحتاج ، وقد إلتفّ حوله النّاس من البسطاء ،
أريدك أن تجدي حلاّ لقتله قبل أن يعظم أمره !
ففكّرت ، وقالت : الحلّ يا مولاي أن نرسل إليه من يحرق القصر والبستان ، فإذا فعلنا ذلك ضعف شأنه ، وانفضّ النّاس من حوله.
قال السّلطان : لكن سيشكّ الجميع في أنّي من دبّر المكيدة!
أجابت: ليس إذا اعترف أحدهم بأنّه قام بذلك لأنّ الأمير يأوي السّحرة والمشعوذين في القصر ،
وأنّ تلك النّخلة العجيبة هي من أعمال السّحر ، وهكذا نضرب عصفورين بحجر واحد : نقضي على قوّته ، ونشوّه سمعته!
ضحك السّلطان ، وقال : ما أشد خبثك!
والله الشّيطان نفسه لا يفكّر في ذلك ، ثمّ إختار عشرين من أقوى حرسه ، وطلب منهم تنفيذ المهمّة دون أن يعلم أحد.
يتبع ..