الطفل والإصبع الذهبي الجزء الأول
إنهّن ثلاث صديقات حميمات ، محجوبة ، ومحبوبة ، وعيشوشة لا يكدن يفارقن بعضهن بعضا ، ويذهبن سويا إلى جميع الأمكنة.
وفي أحد الأيّام ، استيقظن باكرا للذهاب لجمع الحطب ، وتابعن مسيرهن حتى وصلن إلى منزل بالقرب من بستان مترامي الأطراف ،
فيه مختلف أصناف الغلال والأشجار المثمرة.
ولما اقتربنا منه ، بدأن في الكلام بصوت مرتفع ، وفي الوقت الذي يجمعن فيه الحطب ، تنهّدت محجوبة ، وقالت :
إذا تزوج بي صاحب البستان ، سأعدّ له كسكسا فقط بحبة من السّميد ، أما محبوبة فوضعت يدها على خدها ،
وقالت: إذا تزوّج بي ، سأخيط له جلبابا بلفيفة واحدة من الصّوف.
وصاحت الثالثة : عيشوشة : أمّا أنا ، فإذا تزوج بي ، سأنجب له ولدا يكون إصبع رجله من ذهب.
وضحكت منها صديقتيها ، وقالتا : ما أعجب هذا الوعد التي قطعتيه على نفسك!
فأجابت : والله لقد خطر في بالي فقلته ، ومن يدري على ما تخبّئه لنا الأقدار يا بنات!
وأثناء ذلك كان صاحب البستان يسترق السّمع ، ولما نظر إليهنّ من ثقب في السور وجد أنهنّ جميلات.
مرت الأيام ، وتقدم لطلب يد محجوبة ، وبعد الزّواج بها ، أراد أن يمتحنها ليرى صدق وعدها ،
فأعطاها حبّة من السّميد ورطلا من اللحم ، وقال لها: ، أطبخي لنا كسكسي ،
فأجابته : لا يمكن ذلك بحبة من السّميد فقط!
بعد شهر تزوج محبوبة ، وأراد أيضا أن يمتحنها ، فأعطاها لفيفة من الصّوف ، وقال لها : اصنعي لي منه جلبابا كما وعدت بذلك!
فأجابت : ومن يقدر على غزل الجلباب بلفيفة واحدة من الصّوف؟
وفي الأخير تزوج عيشوشة ، التي تعهدت بأن تلد له ولدا إصبع رجله من ذهب. ومع مرور الأيام ، ظهر عليها الحمل.
إقرأ أيضا: الراهب وسيدة القصر
ولمّا حان موعد الولادة ، قال صاحب البستان : سنرى إن كنت ستنفّذين وعدك؟
مكثت الصديقتان معها ، ولم يفارقنها ولو للحظة واحدة ، إلى أن ولدت طفلا جميلا أحد أصابع رجله من ذهب ،
فلم تصدّق المرأتان ، أن هذا يمكن أن يحدث ، ولم تستطيعان إخفاء حقدهما.
قالت واحدة منهما لأخرى : ماذا سنفعل الآن؟
بما أنّها نفّذت وعدها ، فحتما سيحبها أكثر ، ويقوم بتفضيلها علينا ، وربّما طلقنا!
أجابتها الثانية : لا تقلقي ، عندي حلّ لا يخطر على بال أحد.
وفي الفجر حين خرج الرّجل لحراثة البستان ، إغتنمتا فرصة نوم عيشوشة ، وأخذتا الطفل ، وقطعتا اصبعه الذّهبي ،
ووضعتاه في فم الأم ، ثم أحضرتا عظام جدي نهشته الكلاب ، وأخفتاه تحت السرير ،
وأمّا الطفل فقد رمتاه في حفرة على طريق مهجور.
عندما استيقظت الأمّ ، وجدت فمها مغطى بالدّماء ، فأصيبت بالهلع لأنها لا تعرف ماذا حدث ،
إلتفتت حولها ، فلم تجد الطفل ، فبدأت تبحث عنه في كل مكان لكنها لم تجده ،
وفجأة بدأت الصديقتان تصرخان : إنك غولة ، لقد أكلت طفلك الصغير.
شرعت الأمّ بالنّواح بدون توقّف : وتقول يا إلهي هل حدث هذا حقّا ، لا يمكن أن أفعل ذلك؟
وجرت الإثنتان إلى الزوج لإخباره بأن زوجته غولة ، ولقد أكلت الطفل الذي ازداد حديثا ، فجاء ،
وهو يعتقد أنّهما تريدان إخافته ، لكن حين دخل رأى أنّ الدّماء لا تزال على فم عيشوشة ،
وهي لا تكفّ عن البكاء والصّراخ ، وحانت منه إلتفاتة إلى الفراش ، فرأى تحته عظاما منهوشة ،
فانعقد لسانه من الدّهشة ، وعجز عن الكلام.
قالت المرأة : لا أعرف ماذا حدث ، أؤكّد لك أنّي لم أفعل شيئا!
قد يكون ذئبا أو ثعلبا دخل البيت دون أن نفطن له.
إقرأ أيضا: وجدان التي عاشت مع الغزلان الجزء الأول
صرخ الرّجل في وجهها : ويحك أكلت إبني ، وتحاولين خداعي أنت أخطر من الحيوان.
أمّا هي ، فجلست في ركن تفكّر في هذه المصيبة ، ولطيبة قلبها لم تشكّ في رفيقاتها ، ولم ذلك؟
فهنّ صديقات منذ أن كنّ أطفالا!
فكّر الرّجل قليلا ، ثمّ قال : في انتظار معرفة ما حصل ، فأنا لا أثق بك ، ربّما تكونين غولة دون أن أعلم!
لهذا السّبب ستعيشين مع الدّواب ، وستنامين معهم ، وسنرى إن لم تأكلي منهم أحدا ، ولو فعلت ذلك لطلّقتك بالثلاثة أيتها اللعينة.
أحسّ الطفل بالجوع ، فبدأ بالبكاء ، وصادف أن كانت كلبة تمرّ من ذلك المكان فأخرجته من الحفرة ،
وحملته بين أسنانها حتّى وصلت به إلى نهر كبير فرآها صياد يمرّ بزورقه ، فصاح بها لتتركه ، فرمته على الأرض وهربت ،
أمّا الصّياد فجرى للطفل ، وحين رأى أنّه حيّ حمد الله على سلامته ، وضمّد إصبعه المقطوع بخرقة ،
ودار هنا وهناك عسى أن يرى أحدا من أهله ، لكن لا أثر لمخلوق ، وفي الأخير حمله معه إلى داره ،
ولمّا رأته زوجته فرحت أشدّ الفرح ، وقالت في نفسها : كم أنت كريم يا ربّ!
عوّضتني عن الأبناء الذين لم أرزق بهم.
واعتنى الصّياد وإمرأته بالطفل وأرسلاه للكتّاب فحفظ القرآن ، وتعلّم القراءة والكتابة ،
وكان صيّادا ماهرا يحسن الرّماية بالبنادق ، وكلّ من يراه يعجب به لجمال وجهه ، وحسن أخلاقه.
وكان الصّبيان يغارون منه ، فقد كان يتفوّق عليهم في كلّ الألعاب ، ولمّا يتعاركون معه يهزمهم.
وفي أحد الأيّام ، غضبت منه أحد الجارات لأنّه ضرب إبنها رغم كونه أكبر سنّا منه ، فجاءت إليه ، وقالت له :
إبحث عن أهلك الذين ألقوا بك في الشّارع ، فليس لك ما تفعله هنا.
تألّم الولد من هذه الكلمة وحين سأل الصّياد قال له : لا تعبأ بكلامها ، فأنت أحسن الأولاد في هذه القرية ،
وكلهم يحسدونني عليك.
إقرأ أيضا: الطفل والإصبع الذهبي الجزء الثاني
كبر الولد لكنه كان يسمع دائما نفس الشيء وذات يوم أتى للصّياد وإمرأته ، وهم جالسين ،
وقد ظهر الشّيب في رأسيهما ، وقال : تعلمان مقدار حبّي لكما ، لكنّي أرجوكم ، أريد أن أعرف الحقيقة ،
ربّما لي أهل في مكان ما يشتهون رؤيتي ، ويتعذّبون لفقداني ، وأنتما رأيتماني أكبر بينكم ،
وقرّت عينيكما بي ، أمّا هم فلم يكن لهما ذلك الحظ!
نظر الصّياد إلى إمرأته ، وقال له : ما سمعته صحيح ، فقد أتت بك كلبة ورمت بك أمامي وربّما تكون قد إختطفتك ،
لكن لم أهتد إلى أهلك ، وكنت جائعا ، وفي أسوأ حالة ، وعجّلت بحملك عندي ، وأطعمتك ورعيتك حتى دبّت فيك الحياة ،
ونفخت فيك الرّوح من جديد ، فإن وجدت أهلك فعش معهم حتى يفرحوا ،
فإنّي أعلم أنّ فقدان أحد من الأحبّة ليس سهلا ، والله فقط يعلم ما عانوه أيام غيابك.
يتبع ..