الغولة الجزء الثالث
فأظهرت له مشاعر الود وأخذت تغمره بقبلاتها وهي تسأله : كيف تعيش هنا لوحدك يا بني أين هم أهلك وكيف يتركوك في هذا المكان الموحش؟
أجابها الولد قائلا : أعيش هنا مع أختي
فتملكتها الدهشة وسألته قائلة أختك أين هي أختك؟
فرد عليها الصبي : لقد نزلت إلى الوادي وسوف تعود عما قريب.
فسألته مرة أخرى : وأين هم أمك وأبوك وكيف يتركوكما لوحدكم.
فرد عليها الصبي قائلا : لقد ماتت أمنا منذ زمن وتزوج أبونا من إمرأة أخرى هي من أمرته بطردنا من البيت وإحضارنا إلى هنا.
أدركت حينها المرأة معرفة الطفلين للمؤامرة التي دبرتها مع والدهم من أجل التخلص منهما.
فحاولت معرفة سر بقائهما على قيد الحياة طيلة هذه الفترة ، وراحت تسأله وكيف تعملوا الأكل والشرب ،
ومن الذي يطعمكم ويسقيكم.
فرد عليها الصبي : يوجد طير تهبط علينا كل مساء وهي التي تحرسنا وتطعمنا.
ملأ الحنق والغيظ عندها نفس المرأة وكتمت ذلك في نفسها وأخذت تسأله محاولة معرفة المزيد عن الطير متظاهرة عدم تصديق كلامه؟
وأين تهبط هذه الطير التي تقول بأنها تأتي.
فأشار لها بإصبعية قائلا : تسقط هنا.
فبقيت تغافله في الحديث وأخذت عدد من الإبر والأشواك قامت بغرسها في المكان الذي أشار إليه الصبي ، ثم انصرفت عائدة إلى القرية.
لم يخطر بذهن الصبي أن يخبر أخته عندما عادت من الوادي عن المرأة التي زارته أثناء غيابها وعن ما دار بينهما من حديث ،
وبقي كعادته معها ينتظر قدوم الطير التي حلقت كعادتها مع الغروب لتسقط في مكانها المألوف ،
حاملة معها الطعام والشراب الذي يتزودان به طيلة النهار.
إقرأ أيضا: قاتلة الرجال
وما أن هبطت في مكانها المعتاد حتى انغرست الأشواك والإبر في جسمها وأطلقت معها أننة موجعة فزع لسماعها الطفلين ،
وأخذ الدم ينزف من جسمها بغزارة فأخذت تتحرك نحو الأطفال بصعوبة وهي تنظر إليهما وتسألهما من جاء لزيارتكما اليوم؟
نفت الفتاة أن يكون قد زارهما أحد إلا أن الولد قال مؤكدا :
بلى لقد جاءت إمرأة لا أعرفها وأختي في الوادي فبقيت تسألني عن أهلي ومع من أعيش فأجبتها بالصدق.
فقالت الطير بصوت حزين متألم : إنها خالتكما وقد جاءت لتتأكد من موتكما ، فلما وجدتكما على قيد الحياة ،
وعرفت بأني أتي لزيارتكما زرعت لي الأشواك والإبر في المكان الذي أهبط فيه لتنغرس كلها في جسمي لتقضي علي ،
وعلى أي أمل يبقيكم على قيد الحياة.
قد لا أجيئكما ثانية وقد لا تشاهداني بعد اليوم.
لامت الفتاة أخيها على عدم إطلاعها على أمر خالته وحديثه معها ،
فلو أنه كان قد أخبرها لأخذت حذرها ولأخرجت الأشواك المزروعة قبل هبوط الطير.
بقيت الطير تئن وتتوجع طوال الليل وهما يحاولان التخفيف عن آلامها بنزع الشوك والإبر المغروسة في جسمها ،
والتي كانا كلما نزعا شوكة أو إبرة منها تدفق الدم من مكانها بغزارة ،
حتى تمكنوا من انتزاعها كلها وباتت كعادتها تحرسهما حتى الصباح وهي تغالب آلام جراحها.
وقبل رحيلها أخذت تودعهما وتقدم لهما نصائحها قائلة :
اسمعا يا أطفال اسمعاني جيدا ، قد لا أجيئكما ثانية وقد لا تشاهداني بعد اليوم ،
فالأشواك قد مزقت جسمي ونزف من جرائها دمي وجراحها تؤلمني ولكن عليكما التطلع نحو الأفق المقابل قبل الغروب ،
فإذا رأيتما سحابة بيضاء ظهرت منه فانتظرا مجيئي وإذا رأيتما سحابة سوداء ظهرت منه فلا تنتظراني ولا تبقيا في هذا الجرف الموحش ،
عليكما تركه والبحث عن مكان آخر تبيتان فيه ليلكما.
إقرأ أيضا: الغولة الجزء الرابع
مر النهار عليهما طويلا وثقيلا ومثقلا بالهموم والأحزان وهما ينتظران غروب الشمس الذي سيحدد حياتهما ويقرر مصيرها ،
فإما واصلا حياتهم في ذلك المكان إذا ما تغلبت الطير على جراحها وستبقى ترعاهما وتزودهما بالطعام ،
وأما تغلبت الجراح عليها وأقعدتها عن المجيء وسارا في الوادي يبحثان عن مستقبلا يجهلانه ،
وعند الغروب شاهدا في الأفق سحابة قاتمة تظهر من وراء الأفق فيئسا من مجيئها ،
ولم يجدا غير مغادرة الجرف والاتجاه نحو الوادي للسير فيه قبل أن يداهمهما الظلام.
فأخذا يسيران والخوف يملأ نفسيهما حتى وصلا إلى شجرة كبيرة قاما بتسلقها ليحتميان بها من الوحوش ،
وباتا طول الليل عليها.
وفي الصباح الباكر نزلا من على الشجرة وواصلا السير في الوادي الممتد على غير معرفة بالطريق أو بالمكان الذي سيستقران فيه ،
وعند منتصف النهار ، شاهدا بيتا صغيرا يقع على مقربة من الطريق الذي يسيرون عليه.
ففرحا بذلك وذهبا نحوه ليرتاحا فيه بعض الوقت ، وليطلبا من صاحبة البيت التكرم عليهما بشيء من الطعام والشراب.
وما أن وصلا إليه وطرقت الفتاة باب البيت حتى أطلت عليها إمرأة عجوز محدوبة الظهر شاحبة الوجه ،
غائرة العينين ترسلان شعاعا.
أخذت ترحب بهما بحرارة وهي تمسك كل واحد منهما بإحدى يديها وتجرهما ورائها إلى الداخل.
يتبع ..