القارب الصغير الجزء الأول

القارب الصغير الجزء الأول

في قرية صغيرة على الشاطئ الجميل ، كان يعيش صياد السمك يوسف مع زوجته ليلى ، وأولاده : سليم ونبيل وسعاد.

كان الصياد يوسف يحب زوجته وأولاده كثيرا وكان يعمل ليلا نهارا من أجل توفير السعادة لهم ،

وتأمين الكساء والغذاء لكل فرد منهم ، إنه مثل أعلى في نشاطه وجدّه واجتهاده.

وهو في كل يوم ، وبعد منتصف الليل بقليل ، يترك بيته الصغير الجميل ، بعد أن يلقي نظرة كلها عطف وحب وحنان على زوجته وأولاده الغارقين في نومهم ،

ويذهب إلى شاطئ البحر ليلتقي برفقائه الصيادين ، والصيادون يحبون البحر كثيرًا ،

لأنه مورد رزقهم الذي لا ينضب والبحر يعطف على الصيادين ويجود عليهم بخيره الجزيل.

وكثيرًا ما كان الصياد يوسف يحدث زوجته وأولاده عن البحر الهادئ صيفًا ، والهائج شتاءا ، وعن مفاجآته.

فيصف لهم نعيمه عندما يكون هادئًا صافيًا ، وجحيمه عندما يكون ثائرًا صاحبًا كما كان يحدثهم عن شيخ البحر ،

الذي يقيم في الجزيرة المقدسة ، والذي يركب قاربه الصغير كل مساء ويتجول في عرض البحر ،

حتى إذا رأى صيادًا ضالًا هداه ، أو مسافرًا يغرق أنقذه ؛ وهو فوق كل هذا طبيب عظيم يشفي الأمراض والعلل الخطيرة.

وكان أفراد عائلة الصياد يوسف يستمعون إلى أحاديثه عن البحر بشوق ورغبة ، حتى باتوا يتشوقون لركوب البحر والتعرف على نعيمه وجحيمه ؛

ويتمنون رؤية شيخ البحر الذي ينقذ الضالين ، وينقذ الغرقى ، ويشفي المرضى.

وكان سليم أكثرهم شوقًا ، وسليم هو الإبن البار لأنه يشعر بما يشعر به والداه ويشاركهما رغم صغر سنه في تحمل المتاعب ،

ويساعدهما على مجابهة الصعاب.

وكم كان يتمنى سليم ، رغم حداثته ، لو يمكن لوالده مرافقته في بعض رحلاته القصيرة ، ليقدم له العون والمساعدة ،

إقرأ أيضا: صياد الحمام والوالي

غير أن أبا سليم لم يكن يرتضي لابنه البار سليم ما ارتضاه لنفسه ،

فهو يريد أن يعلم أولاده ويُعدّهم لمهن أقل عناءً وأوفر ربحًا من مهنة صيد السمك في يوم من الأيام.

أحست أم سليم بألم في رأسها وضعف في جسمها ولم تتمكن من مغادرة فراشها وخدمة أولادها ،

فاجتمع حولها سليم ونبيل وسعاد وسألوها عن حالها فكتمت عنهم حقيقة أمرها ، لأنها لا تريد أن تعكر صفوهم وتزعج خواطرهم.

ثم حاولت أن تنهض من فراشها ، فخانتها قوتها ، وسقطت مغشيًا عليها وخاف أولادها وأخذ سليم يفرك جبهتها ،

ويديها ورجليها حتى انتبهت ، فهدأ روع الأطفال الصغار ، وعادت إليهم فرحتهم.

وفي المساء عاد الصياد يوسف من عمله وعلم بمرض زوجته الأمينة الطيبة ،

فذهب فورًا إلى منزل طبيب القرية وطلب من الطبيب البارع الوديع أن يصحبه إلى بيته ، بعد أن أطلعه على مرض زوجته.

ولأول مرة دخل الطبيب بيت الصياد يوسف ، فتعجب من نظافته ، ودهش لحسن ترتيب أولاده ،

ولما كان البيت النظيف المرتب هو صورة صادقة لربة هذا البيت.

فقد اهتم الطبيب كثيرًا بأم سليم الزوجة الصالحة ، وفحصها بدقة ثم أعطاها أفضل علاج ورجع إلى منزله ليزورها في اليوم التالي.

لقد تكررت زيارات الطبيب لأم سليم ، وتنوعت العلاجات والأدوية ، وأم سليم لا تزال مريضة ، ومرضها عضال ،

لا تنفع معه العقاقير.

لقد مرضت أم سليم فمرض كل من في البيت لمرضها ،

وانقطع زوجها الصياد يوسف عن عمله ولازم بيته ليسهر على خدمة زوجته الحبيبة ،

ويدير شؤون أولاده الصغار الذين تغيبوا عن مدرستهم ليبقوا قريبين من أمهم العطوف الحنون.

مرت الأيام والأسابيع ، وأم سليم تسير من سيء إلى أسوأ حتى أن الطبيب نفسه يئس من شفائها وانقطع عن زيارتها ،

وخيم الحزن والشقاء على بيت الصياد يوسف.

إقرأ أيضا: قصة مؤلمة جدا تغنى بها كبار المطربين

كان سليم، الإبن البار ، أكبر إخوته سنا ، وأنضجهم عقلا وكان يدعو الله القدير أن يمن على والدته بالشفاء ،

لكي تعود للبيت بهجته وسروره.

وفي يوم مشرق جميل ، خرج سليم من البيت ، وقصد الشاطئ وجلس على صخرة كبيرة ، يتأمل البحر الفسيح ،

ويتذكر قصص والده وحكاياته ويتصوّر شيخ البحر في قاربه الصغير ،

ويتمنى لو يراه ليطلب منه أن يشفي والدته من مرضها الخطير.

لقد مضى من النهار أكثره ، وسليم لا يزال غارقا في تأملاته ، وأخيرًا غلب عليه النعاس فنام وغابت الشمس وخيم الليل ،

وسليم لا يزال نائمًا على تلك الصخرة من صخور الشاطئ ومر شيخ البحر بقاربه الصغير ،

ووجه ضوء فانوسه نحو الشاطئ فرأى سليم غارقا في نومه فرق لحاله ، وتقدم منه وحمله بين يديه بلطف وخفة ووضعه في قاربه.

وتابع رحلته متوجهًا نحو الجزيرة المقدسة.

ولما اقترب القارب من شاطئ الجزيرة ، انتبه سليم من نومه ، فوجد نفسه في القارب ورأى أمامه شيخًا جليلا يمسك بيديه مجدافين طويلين ،

يسير بهما القارب نحو جزيرة صغيرة ، كل ما فيها أخضر جميل.

لم يخف سليم ، ولم يجزع ، بل تذكر قصص أبيه وحكاياته وعرف أنه مع شيخ البحر وأنهما سيصلان بعد قليل إلى الجزيرة المقدسة.

ثم تقدم سليم من الشيخ وحياه بجرأة واحترام ، فتعجب من جرأة هذا الولد وأدبه ، ورد عليه التحية بأجمل منها ،

وسأله عن حاله فقص سليم قصته من أولها إلى آخرها ، ثم أجهش بالبكاء ،

لأنه تذكر أمه الحنون وما تعانيه من أوجاع وآلام.

إقرأ أيضا: القارب الصغير الجزء الثاني

فلما رأى شيخ البحر يبكي سأله عن سبب بكائه فقال له سليم : لقد تذكرت يا سيدي الشيخ أمي المريضة وما تعانيه ،

وتذكرت أبي الوفي الذي ترك عمله ، وتفرغ لخدمتها والسهر عليها ،

وَتذكرت أخوي الصغيرين اللذين تركا المدرسة ليبقيا قريبين من أمهما الحنون.

لقد تذكرت كل ذلك فبكيت والآن لا أدري ماذا حل بهم بعد فراقي لهم ، وغيابي عنهم ولا أعلم ما فعل أبي ،

وما أصاب أمي وأخوي وهل ظنوا أن البحر ابتلعني وصرت في عداد الأموات ،

أم أن شيخ البحر أنقذني ولا أزال على قيد الحياة.

وهنا قطع شيخ البحر سليم كلامه وسأله : وهل يعرف أهلك شيخ البحر أيها الإبن البار؟

فأجابه سليم والدموع تترقرق في عينيه : نعم يا سيدي الشيخ ، فإن أبي هو صياد السمك يوسف ،

وهو يعرفك جيدًا وكان يقص علينا قصصك الحلوة ، ويحدثنا عن حسن صنيعك.

ويخبرنا أنك تنجد التائهين ، وتنقذ الغرقى ، وتشفي المرضى ،

وكنا أنا وأمي وإخوتي نتشوق لرؤياك وإني قصدت أمس شاطئ البحر ، لألتقي بك ،

وأطلب منك أن تشفي لي أمي فتعود إلى مزاولة عملها في البيت.

ويرجع أبي إلى عمله الذي يدر علينا الكساء والغذاء ، ونذهب أنا وإخوتي إلى المدرسة وتعود لبيتنا بهجته ويعود لعائلتنا سرورها.

ثم تذكر سليم مرة ثانية حيرة أبيه عليه وقلق إخوته وسقم أمه ، فانفجر بالبكاء ، وعلا نحيبه فأمسكه شيخ البحر بيده ،

وقال له بعطف وحنان : كف عن البكاء أيها الإبن البار ، وامسح دموعك وتخلص من جميع همومك وأحزانك ،

لأنك وصلت إلى الجزيرة المقدسة.

وهناك ربط الشيخ القارب بحبل إلى جذع شجرة من أشجار الجزيرة ونزل على الشاطئ ،

ونزل معه سليم ثم سارا حتى وصلا إلى قصر عظيم.

يتبع ..

Exit mobile version