قصص منوعة

المواطن الأخير

المواطن الأخير

نعتذر ، إبقى في الفضاء ، لا يمكننا إعادتك إلى الأرض ، الدولة التي أرسلتك لم تعد موجودة.

الجملة التي سمعها رائد الفضاء السوفييتي سيرجي كريكاليف الذي تم إرساله هو والبريطانية هيلين شارمان والسوفيتي الآخر أناتولي أرتسبراسكي ، لمحطة الفضاء السوفييتية ، مير.

(أكبر و أهم محطة في وقتها تبعد عن الأرض 350 كم) بهدف إجراء بعض المهمات البحثية.

إنطلق الصاروخ وبعد 9 دقائق فقط ، كان رواد الفضاء يشاهدون الأرض تغطيها السحب البيضاء ، وكأنها كرة من الثلج.

سيرجي كان من ضمن أمهر الطيارين ورواد الفضاء المعروفين عالميا ،

وهذا يعود لرحلاته التي قام بها للفضاء من قبل.

كانت المدة التي من المفترض أن يقضيها في المحطة 5 شهور فقط تفاديا لإصابته بالسرطان ،

أو حدوث ضمور لعضلاته أو تعرضه لأي إشعاعات ضارة.

وبمجرد وصولهم للمحطة كل واحد فيهم بدأ بعمله ومهمته التي تم إرساله لها.

في هذا الوقت كان يتم إعادة تشكيل الأرض والحكومات والجنسيات ، وبلاد تنهار.

هيلين البريطانية ، بمجرد أن أنهت مهمتها عادت إلى الأرض ،

وبعدها بعدة أيام أنهى فترة البقاء في الفضاء مواطنه أناتولي فعاد للأرض أيضا.

وبقي سيرجي في المحطة ليكمل تصليحاته للمحطة ودراسته لحركة الأرض.

إنتهت مهمة ومدة سيرجي في الفضاء ، ولا توجد أي أخبار من الأرض ولا إرسال أي شيء له!

وعندما بدأ سيرجي يتواصل معهم لم يكن هناك من رد سوى جملة واحدة ،

“نعتذر لا نستطيع إعادتك الآن” .

سيرجي في البداية كان يعتقد أن هذا الوضع سيستمر لأيام فقط وسينتهي ،

ربما هنالك مشكلة بسيطة في التمويل ليس أكثر!

إقرأ أيضا: لم أخبر أولادي قط عن ماهية وظيفتي

واستمر بدورانه الروتيني حول الأرض التي كان يبدو شكلها هادئ تماما ،

1 3 4 10 1 3 4 10

وكأنها بركة مياه في فصل الصيف ، ليس هناك حركة واحدة فيها ،

ولكن على سطحها كانت الدبابات العسكرية تملأ الميدان الأحمر في موسكو ،

وحصل إنقلاب على ميخائيل غورباتشوف رئيس الإتحاد السوفيتي في وقتها.

الأرض من الفضاء كانت ظاهرة كقطعة واحدة ، ولكن سكان الأرض كانوا يرسمون الخطوط ويقسمون البلاد.

كان الظلام والهدوء الذي يعيش بهما في المحطة يخفي عنه ضجيج وحرب وقتل ودمار عاشته بلاده وبلاد العالم.

وبدأت السنة الجديدة وبدأت حالة سيرجي تدهور تماما ،

عزلته عن البشر سببت له حالة نفسية شديدة ، رؤيته لغايته (الأرض) كل يوم ،

وهو غير قادر على أن يصل إليها خلق في نفسه إحساس شديد بالعجز رغم مكانته وذكائه وبراعته.

ومع ذلك لم ينقطع أمل سيرجي ، إلى أن جاءته العبارة صريحة تماما ،

“البلد التي وعدتك بالعودة لم يعد لها وجود أنت مضطر للبقاء في الفضاء”.

تقبل سيرجي الأمر وقرر أن يتأقلم مع الوضع بأي وسيلة وأي طريقة كانت ،

وكما كان سيرجي يحارب في الفضاء كانت روسيا تحارب لجمع الأموال وترميم إقتصادها ،

فاضطرت لبيع مقاعدها في صاروخ سويوز.

إشترت النمسا مقعد ب 7 مليون دولار ، واليابان رحلة لمذيع تلفزيون ب 12 مليون ،

لكن لم تتبرع أي بلد بمقعد وتعيد سيرجي مرة ثانية ، رغم ضخامة قضيته في الإعلام وتفاعل الناس من حول العالم معها آنذاك.

مرت الأيام والشهور حتى أتى شهر آذار ،
هنا أعلنت ألمانيا أنها سترسل رائد فضاء آخر غير سيرجي ،

وستدفع 24 مليون دولار ثمن تكاليف عودة سيرجي.

إقرأ أيضا: تقول اﻹعلامية الجزائرية خديجة بن ڤنة

وفي يوم 25 آذار إستقبل العالم آخر مواطن سوفييتي.

سيرجي هبط على الأرض وهو يرتدي بدلته الفضائية التي عليها الأحرف السوفيتية الأربعة USSR ، والمنجل الأصفر ،

ويحمل في يده علم دولة لم يعد لها أي وجود.

وطبعا كان فاقد للحركة تماما يحمله أربعة رجال وصفوه في الصحف وقتها بأنه كان ،

شاحب كالطحين تفوح منه رائحة العرق مثل كتلة من العجين الرطب.

سيرجي عاد لوطنه الذي تحول لعالم ثان تماما غير الذي كان قد تركه.

هل لك أن تتخيل إحساسه عندما وجد أن الدولة التي هبط فيها لم يعد إسمها أركاليخ ،

بل أصبح كازاخستان ، وبلده التي تربى فيها لم يعد إسمها لينينغراد بل صار سان بطرسبرغ.

مساحة وطنه تقلصت بمقدار 5 مليون كيلو متر ،

حصل تضخم إقتصادي رهيب لدرجة أن راتبه الذي كان 600 روبل أصبح نصف راتب سائق حافلة.

بلده الكبير صار عبارة عن ١٥ بلد ، هذا عدا عن جسده النحيل وفقدان صحته وعدم قدرته على المشي والحركة.

إلا أنه مع ذلك كان متفهما للوضع تماما ، فعلق معقبا على مكوثه كل تلك الفترة في الفضاء :

” إن روسيا في هذا الوقت كانت أولويتها توفير الأموال وليس إنفاقها “.

و بالمدة التي قضاها سيرجي هناك ، كان قد حقق رقما قياسيا بمكوثه311 يوم ،

حيث قضى ضعف المدة التي كانت مخططة له.

الجميل في الموضوع أنه عاد ثانية للفضاء بعد سنتين ،

ولكن هذه المرة لوكالة ناسا الأمريكية.

وهو أول رائد فضاء وطأت قدمه محطة الفضاء الدولية الجديدة (ناسا) ،

إمتنانا لدوره العظيم ومهارته في التعامل مع ظروف الفضاء والتأقلم معها.

سيرجي أصبح بطلا قوميا وذلك لأنه كان بإمكانه العودة بواسطة كبسولة كانت موجودة على متن المحطة ،

لكنه إختار البقاء وعدم إستخدامها ، لأنه يعلم أن مغادرته المحطة كان يعني نهاية المحطة “مير” وإتلافها للأبد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?