قصص منوعة

المياسة والمقداد

المياسة والمقداد

يحكى أنه في بوادي الحجاز ما بين مكة والمدينة المنورة كانت تعيش بطون من قبيلة كندة وسيدها جابر ابن الضحاك ، وكانت له إبنة تسمى المياسة.

كانت آية في الجمال والبهاء وصفها الرواة بأنها ذات “قد معتدل بخد أسيل وطرف كحيل وردف ثقيل وعنق طويل وقامة كأنها ميل”.

وقالوا أنها كانت ذكية المعاطر مقبقبة الخواطر ، إن أقبلت خيلت وإن أدبرت فتنت ،

وقد ذاع جمالها واشتهر اسمها بين قبائل العرب.

فلما بلغت مبلغ الزواج تقدم ساداتهم وأشرافهم وملوكهم لخطبتها ، ولكنها رفضتهم جميعا ،

وأقسمت بذمة العرب وشهر رجب والرب إذا طلب غلب ما يتزوجها ويملك عنانها ،

إلا من يهزمها في المبارزة وميدان الحرب وموقف الطعن والضرب.

تقدم لخطبتها الكثير من أشراف العرب ولكنها غلبت كل فرسانهم حتى وصل صيتها لسادة قريش وفرسانها.

فخرجوا يخطبونها لأي منهم وبذلك يضمنون حلفا قويا مع بنو كندة وهم أشجع فرسان العرب في حروبهم.

عند وصولهم استقبلهم جابر ابن الضحاك مرحبا فهم أهل الحرم وسادة البطحاء.

فذبح لهم الذبائح وأراق الخمر واستضافهم ثلاثة أيام ،

فلما انقضت أيام الضيافة سألهم عن مطلبهم فقالوا جئناك راغبين ولابنتك المياسة خاطبين ،

وقد سمعنا عن حسنها وجمالها وشجاعتها.

وقام أبو الحكم عمرو بن هشام ، أبوجهل يخطبها لولده حنظلة ، وقام غيره.

سمع جابر بن الضحاك كلامهم وقال يا سادات قريش إعلموا أنه ما بقى من العرب أحد إلا قدم علينا وطلب ما طلبتم وسأل ما سألتم ،

وأنتم الأشراف سادة الحرم فانتظروني أسألها.

إقرأ أيضا: كان الملك المسلم كنكا موسى يسترد قرية اغتصبها النصارى في الحبشة

ودخل على إبنته المياسة ليخبرها بأمر سادة قريش ، فوجدها تجلي درعها وتعد سيفها ، ولما رأته نهضت ،

فقال يا أبنتاه إعلمي أن سادات قريش أقبلوا علينا من مكة يطلبون الزواج منك ، وكل واحد منهم طلبك لنفسه أو لولده ،

فاختاري من شئت منهم ، واعلمي أنهم جميعا سادة البطجاء وأشراف العرب وسكان زمزم والصفا.

1 3 4 10 1 3 4 10

فقالت المياسة : لا يملك عناني إلا من يغلبني في المبارزة وميدان الحرب ،

وطلبت من أبيها أن يخرج إلى سادة قريش فيبلغهم أن يشهدوا ساحة القتال من باكر ،

فذهب إليهم فقام أبو الحكم عمرو ابن هشام يأمرهم أن يركبوا خيولهم ويلبسوا عدة حربهم ويلتقوها غدا في الميدان ،

ومن غلبها منهم كانت له.

وسادة قريش قالوا : رضينا ، وبدأوا الاستعداد لملاقاة المياسة ، وفي الصباح أمروا عبيدهم أن يسرجوا خيولهم ،

وأحضروا حقيبة السلاح وأخرجوا منها دروعهم فلبسوها وسيوفهم فتقلدوها ودروعهم فاعتقلوها ،

ثم ركبوا خيولهم وخرجوا إلى الميدان واطلقوا العنان.

خرجت لهم المياسة وقد أسرجت على جواد من أجود الخيل يقال له الجوال ،

ووضعت على رأسها طاسة من الحديد ، وتقلدت بسيف هندي واعتقلت برمح ووقفت على ربوة عالية وانشدت :

أهمك قول الشين والعذال
وقلت قولا ليس بالمحال

إذا قريش عاينو فعالي
ولو أعلن الحرب والنزال

فرد عليها أحد الفرسان قائلا :

ما في العشائر والقبائل مثلنا
ولنا الفخار وسائر الأكرام

ولنا الشجاعة والبراعة والندا
وَلنا الهمز والاجلال والاعظام

ولما سمعت المياسة شعره أخذتها الحمية والنخوة العربية ، وحملت على سادة قريش ،

ونادت أيها السادة هلموا إلى الميدان فهنا يظهر الشجاع من الجبان ،

وبرز لها فارس بعد فارس وبطل وبعد بطل حتى حاروا في أمرها وأذهلتهم قوتها وشجاعتها.

إقرأ أيضا: جبر الخواطر

وكان للمياسة ابن عم هو المقداد بن الاسود الكندي الذي ولد ونشأ يتيما معدما واسمه المقداد بن عمرو وأمه هي تميمة ،

وكان يرعى الإبل والخيل مع عبيد كندة وخدمهم ، فتعلم فنون القتال والفروسية من مشاهدة الفرسان والعربان ،

ورعى الخيل في البيداء.

وحينما علم بمنازلة المياسة لسادة قريش وانتصارها عليهم طلب من أمه أن تذهب إلى خاله فتستعير منه فرسا وسيفا ورمحا لمنازلتها ،

فرفضت أمه بادئ الأمر وعيرته بفقره وقالت له الحق بجمالك وخيلك أنت شكون راع وصغير السن ،

فلا يصلح لك أن تبرز إلى الميدان ولا طاقة لك مثلهم ، فغضب المقداد وأنشد يقول :

يمشي الفقير وكل شيء ضده
والناس تغلق دونه أبوابها

حتى الكلاب إذا رأته عابرا
نبحت عليه وكشرت أنيابها.

فتجرأت أمه تميمة وذهبت إلى بيت خاله وطلبت فرسه ورمحه وسيفه ، فقالت لها زوجة خاله إنهم هدية للمقداد.

وخرج للمياسة في ميدان المبارزة ملثما لا يعرفه أحد ، وحمل عليها حملة منكرة ، فتطاعنا بالرماح حتى تكسرت ،

وتضاربا بالسيوف حتى تلمت ، وعضت الخيل على المراود ، وعلا بينهما الغبار وأظلم النهار حتى غابا عن الأبصار ،

وهما في كرّ وفرّ ، وطعن وضرب ، وازدحم الناس حولهما ، ونظرا لأنهم لا يعرفون المقداد في لثامه قالوا أنه الشيطان ،

ولاموا جابر بن الضحاك ، وقالوا له إبنتك من كثرة غيها راودها شيطان من الجان ، ولم يزل المقداد والمياسة في كرّ وفرّ ،

وحملت عليه المياسة وصاحت صيحة عظيمة وطعنته بكل ما تملك من قوة ،

فتلقاها بثبات وضرب جواده بالسوط فخرج من تحته كالريح ، فبادرته بطعنة أخرى فزاغ منها إلى تحت بطن الجواد ،

واقتلع المياسة من على جوادها ورماها على الأرض ، وقامت المياسة وهي خجلانة متغيرة اللون ،

مكسورة القلب ، باكية العين ، ومضت إلى بيتها ، وقالت لوالدها زوجني بهذا الفارس الذي قهرني في حومة الميدان ونكبني بين الشجعان ،

إن كان غنيا رضيته وإن كان فقيرا أغنيته.

إقرأ أيضا: من أروع قصص الفاروق ما فعله مع العجوز التي شتمته!

ذهب جابر بن الضحاك إلى الفارس الملثم وطلب منه أن يميط اللثام عن وجهه فلما رآه عرفه وعرف فقره ،

فرفض زواجه من المياسة ، وقال لها كفى عن هذا الكلام ولا تطمعي فيه أبدا ،

فكيف وقد خطبك ملوك العرب وساداتهم أن ترغبي في هذا اليتيم ، وهو ضعيف قومك وفقير عشيرتك ،

ولكن المياسة أصرت عليه وآثرت أن تحفظ كلمتها وعهدها وقد أبهرتها شجاعته وإقدامه وقوته عند النزال.

فخرج أبوها من عندها وقد صعب عليه الأمر ، واعتذر لسادات قريش ، واستشار قومه ،

فنصحه أحدهم أن يغالي في المهر فيهلك المقداد في طلبه ، وقال له ثَقِل عليه الشرط والمهر واشرط عليه شرطا فيمضي في طلبه.

فقال له الضحاك جزيت خيرا على هذا الرأي.

وقال للمقداد مهر إبنتي أربعمائة ناقة حمر الوبر سود الحدق لم يحمل عليها شيء ،

وأربعمائة رأس خيل مجللة وسرجها وركابها من ذهب ، ومائة جارية ومائة عبد ومائة أوقية من المسك ،

وخمسون أوقية من الكافور ومائة ثوب من الديباج ، وعلبة قمطر مملوءة من ثياب مصر وعسل الشام ،

وألف أوقية من الذهب الأحمر وألف أوقية من الفضة البيضاء وثماني نوق معلمات وثمانمائة أوقية من البنان الرومي ، وبعد ذلك أريد منك جهازها مثل بنات العرب.

فقال المقداد لك ذلك ، وخرج من ديار كندة طالبا مهر المياسة ، فالتقى قافلة بها ثلثمائة ناقة حمر الوبر ،

والكثير من بضائع مصر والشام ويقودها ثلاثة فرسان ، فصاح صيحة عظيمة وحمل عليهم ،

وقال له أحدهم ويلك ارجع عن سادات الحرم وسكان مكة وزمزم.

فقال المقداد أهلا ومرحبا ، من أي قبيلة أنتم فقالوا نحن بنو هاشم ، وعندما عرفوا حكايته ،

قالوا له : لقد ظلمك عمك ، وما طلب ذلك في مهر إبنته المياسة إلا لهلاكك ووهبه كل واحد منهم مائة ناقة.

ثم التقى ابن قيس بن مالك وبنت عمه الخنساء وأنقذهما من الذين اسراهما ثم انطلق إلى أراضي كسرى بالعراق ،

وقتل من فرسان كسرى الكثير وهو في كل ذلك على حدود العراق.

إقرأ أيضا: من روائع الأديب الحبيب مصطفى لطفي المنفلوطي

فبعث قائد السرية لكسرى يخبره بعجيب أمر الفتى العربي فطلب كسرى منه أن يرافق الفتى إلى مجلس كسرى ،

فدخل المقداد المجلس وهو رافع الرأس منتصب القامة عليه من الفخار مالم يره كسرى ،

فأعجب به وعرف قصته فأراد اختبار فروسيته.

فطلب المقداد منه أن يختار من يشاء لنزاله ، فاختار كسرى ألفا من فرسانه ،

ووعد المقداد أن يعطيه عن كل فارس مال الفارس ومثله من مال كسرى فغلبهم جميعا فاختار كسرى ألفا غيرهم فغلبهم أيضا.

فاستعظم على أحد الوزراء الأمر وحسد المقداد على شجاعته فطلب من كسرى ألا ينفذ وعده ،

لأن فى ذلك خزي لفرسان الدولة أن يهزمهم جميعا رجل واحد ،

ولكن كسرى أبى أن يخلف وعده فأشار عليه الوزير أن يدعوه لقتال أسد عظيم من أسود كسرى يقال له ريبال ،

فإذا هزمه كان له ما أراد وعاد إلى قومه وإذا قتله الأسد كان ذلك قضاؤه.

فوافق كسرى ودعاه ، فنزل المقداد إلى الساحة فهجم عليه الأسد فشق المقداد جسده من الجبهة إلى الذيل بضربة سيف واحدة فأرداه.

فأعجب به كسرى وأعطاه خاتم الأمان الذي قيل أن فصه كان يعادل خراج مصر والعراق والشام سبع سنين ،

وأغدق عليه العطايا وعاد إلى قومه بأموال طائلة وتزوج المياسة التي انتظرته ولم تخلف عهدها معه ،

ولا هي حنثت بيمينها فتزوجت فارسا لم تنجب العرب مثله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?