بيت الجد
في أحد أيام شهر أغسطس ، بينما الشمس تتوسط السماء ، رأيت سيارة سوداء اللون تقترب مني ، توقفت أمامي ، ترجل منها ثلاث أشخاص.
ما أن وطأت أقدامهم الأرض ، حتى اقتربوا مني ، مستظلين بي ، من أشعة الشمس الحارقة.
تحدث أحدهما قائلا : عجبا ، إن المكان هنا به نسمة هواء باردة من الصعب الحصول عليها في مثل هذا الوقت.
رد عليه المعلم موسى السمسار قائلا : بالطبع فالبيت تطل واجهته على الجهة البحرية ، وفي أشد الأوقات حرا لن تشعر بذلك مطلقا.
تعجبت من اجتماع هؤلاء الثلاثة أمامي ، خاصة المعلم موسى السمسار ، بدأ القلق يساورني ، ترى ماذا هناك؟
أصغيت السمع إليهم ، لأتمكن من معرفة سبب تلك الزيارة المفاجأة.
تحدث نفس الشخص قائلا : أهم شيء أن تجد مشتري في أسرع وقت يا معلم ، فأنا بحاجة للمال لاستكمال المشروع.
رد المعلم موسى قائلا : لا داعي للقلق يا أستاذ طارق فىيغضون أسبوع على الأكثر سيكون كل شيء على ما يرام.
وجه الشخص الثالث حديثه لذلك الأخير قائلا : وكما أخبرناك ،
غدا سوف يحضر العمال لإزالة البيت ، ليعود قطعة أرض حتى يسهل بيعه.
رد المعلم موسى قائلا : هذا أفضل بكثير يا أستاذ رامي.
انتابني الفزع الشديد ، مصحوبا بدهشة ، هل يمكن أن يكون ما استنتجته حقيقة؟
إنهم يتحدثوا عن إزالتي ، وحسبما فهمت سيحدث ذلك في الغد.
لكن من هؤلاء؟
بدأت ذاكرتي تعمل بسرعة ، هل يمكن أن يكونا هذان الشابان هما طارق ورامي أحفاد مكاوي صاحبي ،
والذي قام ببنائي قبل ستون عام؟
لقد تبدلت ملامحهما كثيرا!
إقرأ أيضا: دهاء إمرأة قصة حقيقية
كانا يلهوان في فنائي الخلفي ، حينما كانا أطفالا صغار ، ترى ما الذي يدفعهما لفعل ذلك بي !
لقد كنت شاهدا على مولدهما ، رأيت الفرحة تطل بقوة من عيني مكاوي وهو يحمل أكبرهما بين يديه ، رأيتهما يكبرا أمامي يوما بعد يوم.
كانت جدراني ملاذ آمن لهما من برد الشتاء القارس ، ومن حرارة الصيف القائظ ،
أثناء جلوسهما في حجرتهما وقت الظهيرة ، يطالعان تلك القصص المصورة التي كان يحضرها لهما صاحبي في الإجازة الصيفية.
كنت شاهدا على فرحة طارق وأنا أراه يركض من بداية الشارع مسرعا ، ليخبر والدته بأنه تخرج من كلية الطب ،
وكيف أن زغاريت والدته ملئت جناباتي ، لتجعلني أرقص فرحا سعيدا بما حققه الصغير الذي كان يحبوا على أرضي.
استمعت لحديث رامي الهامس ليلا ، أثناء محادثاته الهاتفية لحبه الأول ، التي أصبحت زوجته فيما بعد.
كيف لهما أن يتناسى كل تلك الذكريات السعيدة التي حدثت لهما هنا بتلك السهولة!
أعلم أن للمال مفعول السحر ، ولكن هناك ما هو أهم وأقيم بكثير منه.
هناك ذكريات لا تقدر بثمن ، لو دفعت فيها أموال الدنيا ما استطاعا إسترجاعها ، والتي أعد الشاهد الوحيد عليها.
ياللعجب لم أشعر ، بحنينهما لتلك الذكريات ، فلقد تركوني بمفردي منذ زمن طويل.
بعدما توفى والداهما ، أغلقوا أبوابي ، وذهبوا للعيش في المدينة ، أصبحت وحيدا ، لا يضاء بداخلي مصباح ،
ولم تطأ أقدام إنسان درجاتي التي تهشمت وكستها الأتربة من قلة الإهتمام بها.
أصبحت خربا ، صرت مرتعا للفئران والكلاب الضالة ، وأحيانا بعض اللصوص والمدمنين الذين وجدوا بين جدراني المتهالكة ،
والتي تساقط طلاءها ، مكانا مناسبا للإختباء.
إقرأ أيضا: العندليب مالا يعرفه البعض عن العندليب
أنا الذي كان يضرب بي المثل في السابق ، عندما شرع مكاوي في تأسيسي ،
اختار لي موقعا تحسدني عليه جميع البيوت المحيطة ، والتي قام أصحابها بتشيدها فيما بعد بجواري.
عندما كانت تفتح نوافذي المطلة على الأربع جهات ، تتسلل إليها أشعة الشمس منذ أن تشرق حتى تغيب ،
بالإضافة للهواء العليل في أشد أيام الصيف حرارة والذي كان مضرب الأمثال في كافة أنحاء القرية.
رائحة الطعام التي كانت تنبعث من مطبخي ، لتسيل لعاب كل من يشمها ،
اجتماع أفراد الأسرة في المناسبات والأعياد والفرحة تعلو وجوههم ، وصدى ضحكاتهم التي تتردد بين أروقتي.
جدراني المطلية بالأحمر الداكن، التى كانت محط أعجاب الجميع، المصابيح التى كانت تحيط بي من كل جانب، لتؤنس وحشة المارة فى الليالي المظلمة.
أصبحت الأن خربا ، مهدم النوافذ ، تشققت جدراني ، بسبب عدم الإهتمام بي.
عدت من ذكريات الماضي البعيد ، على صوت محرك السيارة التي أتوا بها وهي تغادر منصرفة.
جلست ليلتي لم يغمض لي جفن ، أفكر فيما ينتظرني في الغد ،
متمنيا أن يعدلوا عن قرارهم الذي اتخذوه ، ولكن ليس كل ما نتمناه ندركه.
تفاجأت في الصباح الباكر بالكثير من العمال الذين جاءوا ، مصطحبين معهم الآلات الهدم ،
لم أصدق ما يحدث ، لقد جاءت النهاية أسرع مما توقعت بكثير.
وما أن رفع أول العمال معولة الذي اصطدم بجدراني ، لم أستطع تحمل ما يحدث لي ،
لم تعد جدراني تقوى على حملي ، سقطت رغما عني.