قصص منوعة

جبر خواطر

جبر خواطر

جالسا على المقهى المقابل للمستشفى الجامعي الذي دخلت إليه والدتي برفقة أخي الأكبر قبل قليل ،

حيث لا يسمح سوى بدخول مرافق واحد بصحبة المريض.

أخبرت النادل أن يقوم باحضار قدح من القهوة ، حيث أنني لم أتذوق طعم النوم طوال الليل قلقا مما يخفيه لي اليوم.

أدرت عيناي يمينا ويسارا متفقدا الشارع الذي ازدحم عن بكرة أبيه بالسيارات التي لا تكف أبواقها عن الصراخ ،

الذي أصابني بالكثير من التوتر ، لتضيف لما أعانيه معاناة جديدا.

أخرجت لفافة تبغ ، قمت بإشعالها سريعا وأنا أنفث الدخان بقوة ، طاردا إياه من صدري ، متمنيا أن يخرج معه الضغط الذي أشعر به.

نظرت أمامي نحو سور المستشفى الذى لا يفصلني عنه سوى طريق يتسع بالكاد لمرور سيارتين متجاورتين.

هناك الكثير من الرجال والنساء متفاوتي الأعمار ، متبايني الملابس ،

افترشوا الأرض مسندين ظهورهم لسور المستشفى الخرساني ، ممسكين بالورق المقوى ،

واضعينه أعلى رؤوسهم ليقيهم حر شمس أغسطس.

من كثرة عدد الحاضرين خيل إلي أن الجميع يعانوا من الأمراض وإنه ليس هناك بيت خال من شخص يتألم.

أخذت الكثير من الذكريات التي جمعتني بوالدتي تداعب عقلي ،

لتقوم برسم ابتسامة هادئة على شفتاي عند تذكري لأحد المواقف المفرحة ، لكنها سرعان ما تختفي ليعود الحزن يكسو ملامحي مجددا.

أحضر النادل قدح القهوة ، تناولت رشفة منه ، وما أن أعدته لموضعه على الطاولة ،

حتى رأيت فتى يقترب مني حاملا لوحا خشبيا صغير الحجم بطول ذراعه ،

تعلوه مجموعة من الخواتم ذات فصوص الزرقاء والحمراء رديئة الصنع.

تحدث إلي أن أشتري واحدا ، شكرته وأخبرته بأنني لا أفضل إقتنائها ، أخذ يلح في طلبه.

أعلم تلك الحيلة التي عفى عليها الزمن جيدا والتي يقوم بها هؤلاء الباعة الجائلين لكسب التعاطف خاصة الأطفال منهم.

إقرأ أيضا: أمي هناك ما أريد إخبارك به

لاحظت أن لهجته تتميز بلكنة صعيدية محببة للنفس ، قمت بسؤاله عن بلده.

1 3 4 10 1 3 4 10

صدق حدثي حينما أخبرني أنه بالفعل ينتمي لأحد محافظات الوجه القبلي.

عدت أسأله مجددا عن سبب تركه بلده والحضور إلى هنا؟

أجابني بأنه يأتي برفقة خاله وأخيه الذي يكبره بسنتين للعمل في الإجازة الصيفية.

أثار الصغير اعجابي ، ألقيت باللوم على نفسي لسوء ظني به ، حيث كنت أظنه يتسول كأغلب من أراهم بكثرة في الشوارع.

عدت لسؤاله مرة أخرى عن الصف الذي يدرس به ، فأخبرني أنه في العام المقبل سوف ينهي المرحلة الإبتدائية.

وبينما أتجاذب معه أطراف الحديث ، إذ بطفل أخر يقترب منا على استحياء ، نظر إليه نظرة عابرة ،

وعاد ينظر إلي وهو يخاطبني قائلا :
إنه أخي “ابراهيم”
كيف حالك ؟

مد يده لمصافحتي وهو يخبرني أنه بخير ، اكتشفت أنني بالرغم من حديثي مع الطفل الأول إلا إنني لا أعرف اسمه.

بادرته بالسؤال ، فأجابني بأنه يدعى (مصطفى).

ابتسمت لهما ، وأنا أخرج حافظة النقود من جيب سروالي الخلفي ، أمسكت ورقة نقدية من فئة المئة جنيه، وقمت بإعطائها لمصطفى.

تعجبت إنه لم يلتقطها بسرعة كما هو معتاد ، وإنما خاطبني بأن أقوم باختيار واحدا من الخواتم التي يبيعها.

شكرته وأنا أرد قائلا : لقد أخبرتك من قبل أنني لا أفضل اقتنائها.

إذن لن يمكنني أخذ النقود.

ألححت عليه بشدة أن يفعل ، لكنه أبى بكل كبرياء وعزة نفس ، ألقى علي السلام وهو يستدير منصرفا.

أمسكت بيده ، وأنا أخبره بأنني سوف أقوم بأخذ واحدا ، وضع اللوح الخشبي على الطاولة أمامي لأقوم بالإختيار.

إقرأ أيضا: أشهر نصابة في القرن العشرين

تناولت واحدا على عجل وأنا أعاود إعطائه النقود مرة أخرى ، تناولها وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة رائعة ،

أخرج من جيبه الباقي ليعطيني إياه ، لكني رفضت بشدة.

هما بالإنصراف ، فقمت بإيقافهما وأنا أخرج ورقة نقدية من نفس الفئة ، قمت بإعطائها لأخيه الأكبر وأنا أخاطبه قائلا :

سوف أقوم بشراء واحدا أخر من “ابراهيم”

إلتقطت واحدا من اللوح الخشبي الذي يحمله ، فابتسم هو الآخر بشدة.

سألني(مصطفى) عن سبب تواجدي هنا ، فأخبرته بأمر والدتي.

قاما الإثنان بالدعاء لها كثيرا وصافحاني وانصرفا.

استرقت النظر إليهما أثناء انصرافهما ووجوههم تشرق بابتسامتهما الرائعة ،

بينما كانا يستديرا إلي بين الحين والآخر ملوحين بأيديهما.

بعد مرور ساعتين رأيت والدتي تخرج من باب المستشفى برفقة أخي ،

قمت بدفع حساب المقهى على عجل وأنا أسرع الخطى نحوهما.

قمت بسؤالهما عن ما حدث فأخبروني بأننا سوف نعود في الغد لمعرفة نتيجة التحاليل ، والفحوصات التي قاما بها في الداخل.

في اليوم التالي بعدما دخلا للمستشفى كالعادة ، عدت للجلوس ثانية على نفس الطاولة التي كنت أجلس عليها بالأمس.

لم يمر وقت طويل حتى رأيت الأخوان (مصطفي) و(ابراهيم) يقتربا من بعيد ، ما أن وقع نظرهما علي ،

حتى أسرعا الخطى نحوي ، قاما بمصافحتي بحرارة وكأننا أصدقاء قدامى.

قام الأول بالسؤال عن صحة والدتي ، فأخبرته أنها بخير ، فأخبرني إنه وأخيه قاما بالدعاء لها بالأمس فى صلواتهما ،

وأكملا حديثهما ليخبراني بأن والدتهما أيضا قامت بالدعاء لها أثناء أدائها لصلاة الفجر ،

بعدما أخبراها بما دار بيننا بالأمس وأنها قالت لهما (ربنا يجبر خاطره مثلما جبر خاطركما).

تأثرت بشدة مما قالا ، أمسكت دموعي بصعوبة بالغة ، فلا يصح أن يراني من حولي أذرف الدموع.

قمت بإخراج نفس المبلغ الذي أعطيته لهما بالأمس ، والتقطت اثنان من الخواتم مرة أخرى ، وأنا أخاطبهما بأن يكثرا من الدعاء.

إقرأ أيضا: قصة للمتزوجين المعددين

أخبراني أنهما سيفعلا بكل تأكيد ، ودعاني وانصرفا مبتعدين وهما يلوحا لي بأيديهما مثلما حدث بالأمس.

لم تمر ساعة حتى رأيت والدتي تخرج برفقة أخي ، تعجبت من خروجهما المبكر ،

حدثت نفسي بأن خطب ما قد حدث ، وعلى أغلب الظن أن أمرا سيئا قد وقع.

ما أن اقتربت منهما ، حتى رأيت وجه والدتي يشرق بابتسامة لم أراها منذ ألم بها ذلك المرض اللعين.

أدرت عيني لوجه أخي فوجدت ابتسامه لا تختلف كثيرا عن تلك التي تعلو وجه والدتي.

تسائلت بتوجس عما هناك؟

أجابني أخي بأن جميع الفحوصات والتحاليل تؤكد أن والدتنا لا تعاني من أي شيء وأنها في أفضل حال.

بدى التعجب واضحا على وجهي ، أخذت أشكك في كفاءة ذلك المستشفى ، بالرغم من علمي المسبق أنها من أفضل المستشفيات ،

إن لم تكن أفضلهم على الإطلاق ، كما أن طاقم الأطباء العاملين بها يشد لهم الجميع بأنهم الأفضل بلا منازع.

أخذت أتبادل الحديث مع أخي الذي أكد لي صحة ما قال.

تحدثت والدتي لتخبرنا أنها منذ الصباح لا تشعر بأي ألم مما كانت تشعر به قبل ذلك.

تعجبت من حديثهما ، أعلم أن (الله) قادر على كل شيء ،

كنت أظن أن عصر المعجزات قد انتهى منذ زمن ، لكنني وقفت مذهول غير مصدق لما حدث.

فجأة تذكرت أمر الطفلين ، وتذكرت دعوة والدتهما بأن يجبر (الله) خاطري كما جبرت بخاطرهما ،

لم أشعر بنفسي إلا وأنا أسجد على الأرض شاكرا الله على عظيم فضله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?