حكاية أليفة الجزء الأول
كان هناك رجل كريم الخلق عادل صادق أمين وكان الله قد أعطاه من الخير والمال والأملاك ، ما جعل أهل القرية يحبونه ويقدرونه ويعينوه رئيسا عليهم.
كان الرجل ذو خلق ومال وجمال وكثير من الزوجات الجميلات ولكن كعادة الأحوال فلا تكتمل السعادة لأحد ،
فقد كان عقيماً لا ينجب وقد رزقه الله المال من زينة الحياة الدنيا وحرمه الزينة الأخرى ، وكان هذا الأمر يحزنه ويقض مضجعه.
وفي يوم من الأيام جلس على فسحة أحد منازله يتأمل جمال الأرض الخضراء والسماء الزرقاء ،
وإذا به يرى طيراً على شجرة يطعم صغاره في العش ثم نظر أمامه ليرى دجاجة من دجاجاته تمشي وورائها فراخها الصغار ،
وراح يتأمل فهنا نعجة ترضع حملها وهناك بقرة ترعى مع عجلها وفي مكان آخر فرس مع مهرها وأطفال القرية يلعبون وتتعالى ضحكاتهم.
أينما نظر كانت الكائنات كلها سعيدة تحمي وترعى صغارها إلا هو رغم كل ما يملك لم يستطع أن يكون له صغير أو صغيرة تفرحه وتؤنس قلبه.
اغرورقت عيناه بالدمع وخرج من المنزل هائماً على وجهه حتى لا يراه أحد يبكي.
لم يكن يعلم إلى أين يتجه ترك قدميه تقودانه حيث تريدان ،
لم يشعر بنفسه إلا واقفا أمام عين الماء في الغابة التي على الجبل المجاور لقريتهم ،
جلس أمام العين وراح يبكي ويبكي ويصرخ بحرقة ،
وفجأة اهتزت الأرض تحته هزة وكأن زلزالا عنيفا أصاب الدنيا.
أراد الوقوف ولكنه وقع أرضاً من هول الهزة وما رأى انشقت عين الماء التي أمامه من المنتصف وراح يغور مائها ،
حتى فرغت وصار يسطع ضوء أزرق مائل للخضرة كلون ماء النبع تماما.
وظهر من الشق رجل مسن كان شيخاً كبيراً بشعر أبيض وذقن بيضاء طويلة حتى خصره وحاجبين عريضين وطويلين ،
يكادان يغطيان عينيه وكان وجهه أبيض محمر ويرتدي ثوبا أزرقا فاتحا.
إقرأ أيضا: قصة الدكتوراه
نظر إليه بخوف ممزوج بفضول وما زاد فضوله عندما رأى أن عيني ذلك المسن كانتا مشقوقتين بالطول ،
ولونهما أزرق صافي بلا بياض ولا سواد.
تهيأ الرجل للهروب ولكن صوت الشيخ أوقفه ، توقف يا فلان لا تهرب.
تجمد الآغا في مكانه وتجمد الدم في عروقه من أين عرف الرجل اسمه ؟
أنا سيد هذه العين يا رجل وقد سمعت صوت بكائك ورغبتك الشديدة بإنجاب طفل من صلبك ،
وسأساعدك لأنني أعرف أنك رجل خلوق وكريم وطيب.
وكيف عرفت بأني رجل طيب وكيف ستساعدني ؟
قاطعه الرجل قائلا : يا بني أنا سيد العين والمياه التي تراها وكل نسمة هواء وكل قطرة ماء وكل ورقة شجر حولك تحدثني ،
وتخبرني عن أحوال الناس ، وأما كيف سأساعدك ؟
أخرج الرجل من كم ثوبه الأزرق تفاحة نضرة شديدة اللمعان والصفرة حتى ليظن الرائي أنها مصنوعة من الذهب.
هذه تفاحة زينة الحياة يكفي أن تأكل منها وتطعم كل من زوجاتك قضمة منها وأما ما يزيد منها فقسمه قسمين ،
ادفن أول قسم في أرض من أراضيك واخلط القسم الآخر بعلف دوابك ،
وعندها ستتمتع بكل ما في هذه الحياة من زينة مال وبنون ورزق وبركة في كل ما يأتيك.
أعطاه العجوز تفاحة ذهبية عجيبة سوف تغير حياته.
اقترب الآغا من ضفة العين بلهفة ليلتقط التفاحة من الرجل ولكن الرجل أمسكها وأكمل كلامه.
ولكن عندي شرط واحد ، اشرط أي شيء ، أعطيك ما تريد حتى روحي أعطيك إياها بعد أن أرى ولدا من صلبي.
لا أريد روحك ولكن سيولد لك الكثير من الأولاد والبنات وشرطي هو أن تعطيني أول بنت تُرزق بها ،
فأنا كما ترى شيخ كبير وأعيش وحدي في قصري لا أحد يؤنسني ولا يقوم بخدمتي وأعدك أنني سأعتبرها كابنتي.
إقرأ أيضا: المتاهة العجيبة الجزء الأول
فكر الرجل مليا ولشدة يأسه حدثته نفسه قائلة وما الضرر هي بنت واحدة وما واحدة أمام عشرات الأولاد الذين سيحملون إسمي ويحققون حلمي.
وافق الرجل وأخذ التفاحة وانطلق إلى القرية مسرعا ،
نفذ ما أملاه عليه سيد العين وفعلا وبعد مرور فترة بشرته نسائه كلهن بحملهن وحتى دوابه كلهن حملن للمرة الثانية تلك السنة ،
وأما الأشجار فقد ثقلت بالثمار والأرض ازدانت بالخيرات.
وراحت دوابه تلد الواحدة تلو الأخرى وولدت نسائه وفي السنوات المقبلة رزق بأولاد ،
والكثير من الدواب حتى بلغ عدد ما ولد له من أبناء ودواب ما يزيد عن الألف.
وبقت فقط زوجته الصغرى فقد كانت حاملاً بشهرها الأخير ورُزقت بمولودة أنثى سماها أبوها أليفة ،
أي الواحدة بين ألوف فرح بأليفة أشد الفرح.
فكانت أنيسة قلبه وحنونته ولشدة سعادته نسي الشيخ ووعده للشيخ فقد أنساه أولاده وأرزاقه أي شيء آخر.
مرت السنين وزوجات الرجل ينجبن الولد تلو الآخر ولم تلد ولا واحدة منهن بنتا ،
فكانت أليفة وحيدته إبنته شديدة الجمال والذكاء والأدب بالرغم من صغر سنها ،
وفي تلك السنة قرر والدها إرسالها لتتعلم أسس الكتابة والقراءة والحساب ،
وكان ذلك ممنوعا على البنات ولكن وحيدة قلبه أليفة لم تكن كباقي البنات.
في يوم من الأيام خرجت أليفة من حلقة العلم متجهة للمنزل وإذا بشيخ مسن يقف أمام دار المعلم صاح لها الشيخ بالاسم :
أليفة أليفة تعالي يا ابنتي.
تفاجأت أليفة من هذا الغريب كيف يعرف إسمها ، اتجهت إليه بخجل وقالت له : ماذا تريد يا جدي؟
أجابها سلمي لي على أبيكِ يا ابنتي وأنشديه : أليفة يا ألف ألوف سلمي لي على أبوكِ الزين قولي له يا رئيس شوف وعد الحر عليه دين.
إقرأ أيضا: أحيانا تشتعل المشاكل بين الأزواج بسبب الحموات
مشى الشيخ ببطء وأليفة تنظر إليه بغرابة فهي لم تفهم شيئا.
عادت إلى المنزل وما إن رأت أمها وأخوتها ينتظرونها على الطعام حتى نسيت الشيخ وشعره الغريب.
في اليوم التالي تكرر نفس الموقف أوقفها الشيخ واستفسر عن والدها ولكنها اعتذرت منه وأخبرته بأنها نسيت إيصال الرسالة لأبيها.
فأنشدها ببيت آخر قال فيه : يا رئيس أدي الأمانة الأمانة حمل الرجال لما عرضها رب العرش رفضتها حتى الجبال أعطيني حقي يا رئيس أليفة رزقي الحلال.
ونفس المرة الأولى نسيت طفلتنا إيصال المرسال لأبيها.
وفي اليوم الثالث جاء الرجل غاضباً وقال لها : ماذا قال لكِ أبوكِ؟
فأخبرته أنها نسيت وهنا قال لها : حسنا سأعطيكِ هذه التفاحة الصفراء أعطيها لأبيكِ وأخبريه :
سيد العين ينتظرك بعلامة هذه التفاحة.
وصلت أليفة إلى المنزل وراحت تبحث عن أبيها وكأن كلام الشيخ السهل سهل عليها المهمة ،
وما إن لمحت والدها في بيت خالتها الكبيرة حتى فتح يديه ليستقبلها في حضنه فركضت إليه وضمته وهمست بأذنه.
يا أبي سيد العين ينتظرك بعلامة هي التفاحة وأخرجت التفاحة من جيبها.
جحظت عينيه ووقع على ركبتيه ولم يعد قادرا على النطق بحرف وكأن صاعقة أصابته.
هرعت إليه زوجته وأولاده وأجلسوه في مجلسه وراحت زوجته تستفسر منه عن حاله هل هو مريض أو متعب؟
انفجر الرجل بالبكاء وراح يهذي ويقول : انخرب بيتي يا مرة.
خافت زوجته وسألته عن سبب هلعه وحزنه؟
فقص عليها القصة التي حدثت منذ عشر سنوات والوعد الذي وعده لسيد العين وأن السيد يريد أمانته التي هي ابنته الوحيدة الغالية.
إقرأ أيضا: حكاية أليفة الجزء الثاني
ولكن الزوجة قالت له : بأنه لا يستطيع التملص من وعده وأنها تخاف إن هو أخلف وعده بأن ينتقم الشيخ فيضر باقي أبنائه ،
وكان سهلا عليها القول بتنفيذ الوعد فالفتاة وإن كانت غالية عليها فهي ليست ابنتها وأبنائها أهم من كل شيء عندها.
رضخ الرجل للأمر الواقع فلا مفر من وعده قال لأليفة :
يا ابنتي اذهبي إلى أمك فلتحممك وتهيئ لك لباسا وأغراضا سأخذك إلى قرية عمتك غدا لتزوريها عدة أيام.
فرحت الفتاة الصغيرة وطلبت من أمها تهيئتها من غير أن تعرف بمصيرها.
في صباح ذلك اليوم كانت أليفة بفستانها الزهري وجدائل شعرها الأسود وحذائها الأبيض كالقمر ،
وكانت شديدة السعادة وما إن رأت أبوها حتى ودعت أمها بقبلة وحملت حقيبة لباسها وخرجت إليه.
ركب الاثنان حصان أبيها وصار يمشي الحصان في الغابة حتى وصلا إلى العين ،
نزل الأب وأنزل الصغيرة التي كانت مستغربة تسأله : هذا ليس بيت عمتي يا أبي.
أخبرها أبوها وهو يبكي يا ابنتي أنا سأعطيك للشيخ الذي رأيتيه وهذا وعد قطعته على نفسي.
نظرت إليه الصغيرة ومسحت دموعه ولأنها طفلة ذكية قالت لأبيها : لا تخف علي يا أبي سأكون بخير.
اهتزت الأرض وانشق العين وظهر سيدها ارتعدت الطفلة خوفاً من شكله فقد اختلفت عيناه وملابسه عن شكله عندما كان ينتظرها أمام دار المعلم ،
وزاد خوفها عندما أمسك بيدها بقوة وقال لأبيها : لا تخف إنها في الحفظ والصون.
حمل الرجل أليفة على ظهره وسط بكاء الأب وبكاء الطفلة وقال له هيا اذهب حتى لا تؤلم قلب الصغيرة ،
وقال لها تمسكي جيداً يا ابنتي ونزل تحت العين وأغلقت الأرض ثانية.
يتبع ..