حكاية التاجر وإبنة القاضي
حكاية التاجر وإبنة القاضي
يحكى أنّ رجلا كان في مجلس قاضي ، فدخل عليه توأمان من الشباب لم يرى من هو أحسن منهما وجها ولا أكمل رجولة ولا أتم خلقا.
فقال الرجل في نفسه لا بدّ أنّ أباهما قد تزوج من إمرأة روميّة فأنجبت له هذين التوأمين ،
ثم دفع بهما إلى شيخ من شيوخ العلم والأدب حتى صارا كما أرى.
لكن فضوله زاد على الحد ممّا رأى من حسن أدبهما ، وحكمة منطقهما ، وسداد رأيهما ، ممّا دفعه إلى سؤال القاضي عنهما.
قال له القاضي إن لهذين التوأمين أعجب قصّة ، تشوّق الرّجل وقال للقاضي ، بالله عليك قصّ علي حكايتهما.
قال القاضي : يروى أنّ شابا صالحا كان يعمل تاجرا ، ويجوب الأرض من أجل بضاعته ،
وفي يوم من الأيام سمع صوت المؤذن ، فترك شؤونه ، وذهب للصلاة ،
ثم إجتمع المصلون في شكل حلقة أخذت تتسع حتى شملت كل قاعة المسجد ،
فقال في نفسه لا بدّ أنّ الإمام الذي قبع في الوسط سيقول شيئا مهمّا ، وإلاّ لما إجتمع كل هذا الحشد.
بدأ الشيخ حديثه بحمد الله والثناء على نعمته ، ثم قال : إعلموا أنّ أعظم النّعم التي أنعم الله بها على عباده هي الزواج ،
وعلينا أن نختارها ليس لجمالها بل لأخلاقها حتى ولو كانت سوداء.
إمتعض الفتى من هذا الكلام وخرج من المسجد بازدراء ، كان حلمه أن يتزوّج من إمرأة جميلة تسرّ العين ،
في نومه كان يراها شقراء درّية اللون يقطر الشهد من شفتيها ،
وقال في نفسه أكون ناسكا وألبس جبة صوف خشن ، ولا أتزوّج سوداء وليحتفظ الإمام بنصائحه لنفسه.
عاد إلى تجارته وأنساه السفر حكاية الإمام وفكرة الزواج نفسها.
بعدما جاب أقطارا كثيرة حط رحاله في بلد بعيد أعجبه ناسها وجمال نسائهم ،
وبدأ يتقرب من أعيانها لعله يعثر عند أحدهم على البنت التي يشتهيها قلبه.
إقرأ أيضا: حكاية زنوبيا ملكة تدمر وجذيمة
لم يكن من الصعب عليه أن يكون صديق لأعيان القوم نتيجة لمن عرف عنه من أخلاق حميدة وأمانة وصدق ،
جاءته الأخبار أن لقاض المدينة صبية ليس لملاحتها وظرفها مثيل ، وأن والدها يحبها ويدللها ،
حتى أنه أطلق عليها إسم سرّ أبيها.
وقد يئس شباب البلد من الزّواج منها لأنّها كانت تطرح عليهم لغزا وتطلب منهم حله ولم يقدر أحد على ذلك.
هذه الحكاية أثارت فضول الفتى ، وقرر أن يذهب إلى القاضي ويطلب يد سر أبيها ،
أطرق القاضي مفكرا ثم رفع رأسه متفحّصا ملامح التاجر ،
وبعد صمت طويل قال لا بد أنّك سمعت عن الألغاز التي تطرحها إبنتي الوحيدة لمن يتقدم للزواج منها ،
هل تظن نفسك أهلا لها.
قال الفتى بأدب ، ولكن بلهجة تحدّي نعم.
ثم نادى إبنته إلى مجلسه ، أقبلت الصّبية وقد لبست ثوبا طويلا غطى جسدها ويديها ، ووضعت على رأسها خمارا.
لم يكن يظهر منها شيء ، قال الفتى في نفسه ربّما فعلت ذلك حشمة وحياء فزادت رغبته فيها.
سألته ما هي الشجرة التي لها ثلاثون ورقة يسقطون كلهم ، ثم ينبتون من جديد.
قال : الشهر فيه ثلاثون يوما عندما يبلغ آخره تكون ثلاثون يوما أخرى ،
إبتسم القاضي فلم يقدر أحد على الإجابة قبل ذلك ، وقال كيف عرفت؟
أجاب : عندما أعبر الفيافي والمفازات لي ثلاثون عودا أحسب بها الأيام.
قالت الصّبية : حسنا ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع في الفجر ، وعلى إثنين في الصباح ، وثلاثة في المساء.
أجاب : الإنسان عنما يهرم يمشي على عكاز ، ضحك القاضي ، وقال له كيف عرفت؟
ردّ من عصاي التي أتوكّأ عليها عندما أتعب.
قال القاضي السؤال الثالث سأطرحه أنا : أحضر له صرّة فيها تراب الأرض وأخرى فيها ذهب ، وقال له ماذا تختار؟
إقرأ أيضا: تزوجت في سن الخامسة عشر رجلا يكبرني بنحو 20 عاما
رد الفتى : اختار تراب الأرض ، فالمال قد ينتهي أمّا الأرض تبقى ، ثمّ أذن له بالإنصراف.
وفي الغد جاءه من يخبره بأنّ القاضي يريده ، وعندما ذهب إليه رأى على وجهه أمارات البشائر ، وقال له أهنئك ،
فقد كنت بارعا وأحسنت الجواب ، بعد أسبوع عرسك فجهّز نفسك لتعجب عروسك.
مرّ الأسبوع والفتى في غاية الشوق وتملأ خياله صورة إبنة القاضي التي سمع عنها كثيرا من الأخبار.
عقد إمام المدينة قرانهما ، وأقيمت الولائم العظيمة ، وفي آخر الليل ذهب العريسان إلى مخدعهما في دار التاجر التي إشتراها لزواجه.
جلس بجانبها وقد أسكره عطرها ، رفع بحنان غطاء وجهها ، لكن ما إن وقع نظره عليها حتى ذعر ،
لقد كانت سوداء ، وتذكر فورا كلام الإمام ، وكيف إستهزأ به مجلسه ،
الآن القدر ينتقم منه على ما فعله في المسجد ، لقد فهم الآن لماذا كانت تخفي وجهها ويدها ،
لقد إحتالت عليه وأبوها معها ، أطرق حزينا يفكر في حلّ لمأزقه.
إقتربت منه وأمسكت يده التي تحوّلت إلى جماد بين كفيها الدافئين ،
وقالت له : أنت من تقربّت إلى والدي وطلبت حل اللغز ، وأنت على حكمة وخلق عظيم لهذا أحببتك من كل قلبي.
لأول مرة أحسّ بالفرح ، لي أختين شقراوين تزوّجا ، أما أنا شاء قدري أن أكون سوداء ،
قال لها لماذا الألغاز ، كان من الممكن أن تجدي زوجا بسهولة دونها ،
قالت : صحيح أنا سوداء لكني أحبّ الحكمة والعقل ، لا يهمّني المال.
سأقول لك سرّا لقد أعجبني حديثك وظرفك ، وكنت سأقبل الزواج حتّى وإن أخفقت في الإجابة ،
أعترف أنّنا لم نخبرك بالحقيقة ، لك الحق أن تطلقني لكن بعد مدة لكي لا تلحقني ألسنة السوء شيئا فشيئا ،
أخذ سواد الخلقة سينسحب أمام جمال أخلاق البنت ، ورجاحة عقلها.
إقرأ أيضا: أحبني طفل الجزء الأول
وإذ بمشاعر الحب تغزوا أحاسيس التاجر ، وبعد أن كان ينفر منها لم يعد يطيق فراقها ،
واعترف لها بحبّه وأنه سيحارب الدنيا من أجل عيونها ، فدخل بزوجته وأنجبت تلك المرأة هذين التوأمين البديعي الخلق والأخلاق.
لا تغتروا أصدقائي بالمظاهر فالجمال الحقيقي هو جمال النفس.
يزول جمال الوجه يوما ، لكن الأخلاق والحكمة وإشراق الروح لا يزول.