حكاية الراعي وبنت السلطان الجزء الثالث
مشى محمود حتى وصل للجبل الذي فيه مغارة السّاحر ، وقال للحصان : ستقوم بافتعال ضجّة ، ولمّا يخرج ذلك الشّيخ ،
سأدخل ، وأنقذ الأميرة ، وأرجو أن تكفي تلك العباءة لإخفائي عن الأنظار ، وإلا هلكت!
قال الحصان : سأحاول إبعاده أكثر ما يمكن ، المهمّ أن لا تتأخّر.
كان السّاحر جالسا حول المائدة ، وأمامه الأميرة رباب وهي تقلّب الطعام في صحفتها دون أن تأكل منه شيئا ،
وقد ظهر عليها الضعف والهزال ، ولم يكن بوسعها الهرب لأنّ الخفافيش التي تتدلّى من السّقف تراقبها ، وتمنعها من الخروج ،
وفجأة سمعا صوت حجر يلتطم بحافة المغارة ، فبدأ السّاحر يسبّ ، وتساءل : من الذي يزعجني وقت العشاء؟
فأطل من الباب ، لكنه لم ير شيئا ، ولمّا إستدار ليرجع ، فوجئ بحجر يصيبه في رأسه ،
فهاج وماج ، ومن بعيد لمح الحصان واقفا ، فقال له : ويحك ، ما الذي أتى بك إلى جبلي؟
سأقبض عليك ، وأسلخ جلدك! فسخر منه ، وزاد غضب السّاحر ، وشرع في الجري وراءه.
أمّا محمود فكان مختبئا وراء شجرة ، وحين رأى أن المغارة خالية ، لبس العباءة ، ودخل ،
وبعد قليل رأى الأميرة جالسة وهي تبكي ، فتقدّم ناحيتها ، لكنّه شاهد الخفافيش وهي تحرّك رؤوسها ،
وقال في نفسه : لو أمسكت يد الأميرة لتفطّنت لي تلك المخلوقات البغيضة ، ولا بدّ من حيلة لأشغلها عنّي!
ثمّ إلتفت حوله فرأى المشاعل على الحائط ، فانتزع واحدا منها ، وألقاه على فراش السّاحر ، فاشتعلت النّيران بسرعة ،
وامتدّت إلى الزرابي والجلود ، إضطربت الخفافيش ، وصارت تحلّق في كلّ مكان ، واحترق بعضها ،
أمّا الأميرة فالتصقت بركن ، وقد تملّكها الفزع ، فجرى محمود ، وأدخلها تحت العباءة ، وأشار لها بإصبعه أن تصمت ،
وأنّه جاء لإنقاذها ، ولمّا إكتشفت تلك الطيور إختفاء رباب ، أطلقت صيحات مخيفة ، وطارت إلى باب المغارة ،
ثمّ خرجت تبحث عنها في الغابة ، حينئذ قال محمود للأميرة : الآن بإمكاننا أن نهرب من هنا.
إقرأ أيضا: سأجعلهم يعانون مثلي وأكثر
ثم سارا تحت الأشجار ، وهما يحذران أن يصدرا صوتا.
أمّا السّاحر فعندما رأى الخفافيش تحلّق في الغابة ، كف عن مطاردة الحصان ، ورجع إلى المغارة ،
ومن بعيد رأى النّيران تلتهم داره وكتبه وكل ما يملك ، فصرخ صرخة عظيمة ، إهتز لها كلّ الجبل ،
ولم يفهم كيف إحتالت عليه تلك اللعينة رباب ، ولم ترها الخفافيش أو تحسّ بها!
ثم صاح: لقد فهمت الآن : فذلك الحصان لم يكن وجوده هنا صدفة ، لا شكّ أنّ الأميرة معه الآن ، وسأبحث عنه.
لكن الحصان كان يعرف أنّ السّاحر سيتبعه ، فجاء إلى مستنقع مليء بالطين ، فتمرّغ فيه ، ثمّ إستلقى على جانبه ،
وأتت الضّفادع ، وبدأت تقفز فوقه.
وصل الرّجل قربه ، ونظر يمينا وشمالا ، ثم قال : هذا عجيب ،فأنا لا أراه!
وفجأة نزلت على يده حبّات من الغبار الأبيض ، فشمّها ، وقال : ويحي ، إنّها واقية من السّحر!
دون شكّ ما جرى اليوم هو من تدبير كاهنات الغابة ، فإني أعرف خبثهنّ ، لكن ليس لأحد القدرة أن يتحدّاني ،
وسيرى سكاّن هذه المملكة ما سأفعلهم بهم ، والله لن أبقي شيئا حيّا هناك ، لا إنسان ، ولا حتى فراشة ، أو نملة.
ثم أشعل نارا ، وشرع يتمتم ويهمهم ، فبدأت الأغوال تخرج من الكهوف والغيران وتتجمع عنده ، وإمتلأت السّماء بالخفافيش السامة ،
أما محمود فنزل من الجبل ، ومشى مع رباب وحين أصبح بعيدا ، نزع عنه العباءة ، بعد ذلك إصطاد أرنبا وطبخه ،
فأكلت الأميرة وهي ترتعد من الجوع ، وسقاها من قربته ، فانتعشت روحها ، وشكرته على معروفه ،
ثم سألته عن حال مملكتها ، فأجابها : لقد وضعت شيئا لفكّ السّحر ، ولا أدرى ما هي النتيجة!
في ذلك الوقت جاء الحصان وهو يركض ، وقال له : لا وقت لدينا يا محمود ، فالسّاحر يجمع قوى الشرّ ،
علينا الآن بالبحث عن البئر الذي ليس له قاع ، المشكلة أنّي لا أعرف مكانه ، ونحن الآن في ورطة.
إلتفتت الأميرة إلى محمود ، وقالت : أني أعرف ذلك البئر الغريب ، فقد كان أبي يحملني إلى هناك ،
ويقول لي أن الأرواح تسكن في ذلك المكان ، ولو أنصتّ جيدا لسمعت صوت أمّك التي ماتت وهي تضعك في الدنيا ،
صاح محمود : إذن هيا بنا!
إقرأ أيضا: أخت تفضح أختها
ثم قفزا على ظهر الحصان الذي بدأ يسابق الرّيح ، وفي الطريق شاهدوا أنّ الغبار الأسود بدأ يتراجع تدريجّيا تاركا ورائه الخراب ،
فرحت رباب ، وقالت للفتى : لقد نجحت يا محمود ، وبعد أن ينتهي كل شيء سنعيد زراعة الأشجار والزّهور ،
فأمسك بيدها ، وقبّل جبينها ، فلاحت عليها حمرة الخجل.
أمّا الحصان فأطلق صهيلا طويلا ، وقد أعجبه الحبّ الذي بينهما ، والمملكة تحتاج إلى ذلك الشّعور القويّ الصّادق لتواجه الشّر المحدق بها ، وترمّم نفسها.
بعد ساعات وصلوا إلى حفرة كبيرة ، لمّا أطلّ محمود فيها ، لم ير إلا الظلام الدّامس ،
فقال : لا أحد يمكنه النّزول ، لا من الإنس ولا من الجان ،
سألته رباب ، وما الذي تبحث عنه هنا؟ فحكى لها عن السّنبلة التي فيها ألف حّبة من القمح ، وأنّه لا يعرف لماذا تصلح ،
أجابته : إبتعد ، ودعني وحدي ، ثم بدأت تبكي ، وتنادي أمّها ، وسالت دموعها غزيرة في البئر.
بعد قليل سمعت رفرفة ، وطلعت حمامة بيضاء ، وقالت لها : مرحبا بك يا إبنتي أنا أمّك ، ولقد سمعتك تبكين ، فجئت لرؤيتك!
أخذت رباب الحمامة ، ووضعتها في حجرها ، واشتكت لها ألم الفراق ، ثمّ نظرت الحمامة لمحمود ،
وقالت لها : ذلك الفتى ذو شهامة ومروءة ، وسيكون قلبي مطمئنا عليك وأنا في عالم الأموات.
ردّت رباب : نعم يا أمي ، ولكنّي أحتاجك في أمر ، سأتها أمّها وما هو يا إبنتي؟
أجابت الفتاة : السنبلة التي فيها ألف حبة.
نزلت الحمامة، وبعد قليل صعدت وفي منقارها سنبلة ذهبية اللون ليس في الدّنيا أجمل منها لونا ،
ثم قالت لها : سأرحل الآن فلقد إطمئن قلبي عليك ، ثم غاصت في البئر ،
قال الحصان : أعلم أن هذا الأمر محزن ، لكن لا بدّ من الرجوع إلى المملكة لكي تتزوّجا ويقود محمود المعركة ،
فالقوم يزحفون علينا من جبلهم!
إقرأ أيضا: حكاية الراعي وبنت السلطان الجزء الرابع
بعد رحلة طويلة وصلوا للمملكة ، فاستقبلهم النّاس بالطبول والزغاريد ، وبدأوا يهللون ويكبّرون لرؤية الأميرة بخير ،
ثم حضر أحد المشائخ ، وكتب قرانهما ، بعد ذلك وقفت رباب خطيبة في الناس ، وحمدت الله وأثنت عليه :
ثم قالت : إعلموا أننا ربحنا معركة ضدّ السّاحر ، وأوقفنا المرض والخراب حولنا ، لكن الحرب لم تنته ،
وذلك الملعون قادم بجيشه من المردة والغيلان ، فمن يأتي معي؟
صاح كلّ النّاس : نحن معك رجالا ، وصبيانا وشيوخا ، ثم سار الجميع إلى القصر ، وعظم عددهم ، وفي أيديهم المشاعل ، والمذارى ، والعصي.
سمع ناصر بالجموع الغفيرة التي تقودها رباب والمشائخ ، فأمر بإغلاق الأبواب ،
واستدعاء جنود الجن الذين في سراديب القصر ، لكن أحد القادة الشّجعان ، واسمه نور الدّين : قال :
مملكتنا اليوم محتاجة لوحدة الصّفوف ، ولقد رأينا ما جرى لبلادنا بسبب طاعتنا لناصر ، وهو لا يهمّه إلا نفسه ،
ولا يقلقه أن يكون سلطانا على مملكة من الخرائب والموتى ، لقد عزمت أن أبايع الأميرة رباب ،
وأنضمّ للعامّة التي تقاتل من أجل نسائها وأطفالها.
فقال الجنود : نعم الرّأي يا نور الدين!
ثمّ جروا إلى السّراديب ، وصبّوا فيها الزّيت ، وأشعلوا النّار ، ثم سدّوا المدخل على جنود الجنّ ،
فتعالت صرخاتهم ، واحترقوا ، ثم ذهب نور الدين إلى قاعة العرش ، وترجّاه ناصر ليتركه في منصبه ،
ثمّ فتح له صناديق الأموال ، لكنّه رماها على وجهه ، فأشار السّلطان بغضب إلى حرسه ،
ليدافعوا عنه ، لكن لم يتحرّك منهم أحد ، فوثب عليه رجال نور الدين ، وجرّوه من لحيته ، وهو يستغيث ،
وألقوا به من النّافذة مع ذهبه ، فوقع على الأرض ، وتهشّمت أضلاعه ، ثمّ خرج الجند من القصر ،
وهم يلوّحون بسيوفهم ، ورماحهم ، ويهتفون بحياة الأميرة رباب.
يتبع ..