حكاية الفقير والوزير
حكاية الفقير والوزير
كان أحد الرجال فقيرا معدما ، ذو عيال كثير ، يعمل من الصّباح إلى المساء ، حمّالا يسوق حماره بأغراض الناس ، مقابل دراهم قليلة ،
يشتري بها لهم طعاما ، وفي كثير من الأيام لا يحصل إلا على ثمن الشعير للحمار ، ويبيت جائعا مع زوجته وأولاده.
وذات يوم جاءته حمولة كبيرة ، فاشترى لأهله ألواناً من الطعام ، وملأ كيس الحمار بالشعير وقصد بيته ،
وبينما هو في بعض الطريق سألته إمرأة عن أحد الأزقة ، فتوقّف ، وأشار لها إلى الطريق ، كانت جميلة ، فأخذ ينظر إليها وهي تبتعد ،
وعندما التفت وراءه لم يجد الحمار ، فبحث عنه في كل مكان ، ودار في الحارات ، وهو ينادي ، ويسأل عنه ،
حتى تورّمت قدماه ، ولكن دون جدوى ، فأدرك أن لصّا سرقه!
فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السّماء ، وقال : يا رب ، كل الأيام لا أرزق إلا بالقليل ويوم فتحت عليّ باب الرّزق سرق أحدهم الحمار؟
ومضى إلى الملك ، غاضبا يريد أن يشكو إليه سرقة حماره ، فمنعه الحرس من الدّخول ، فأخذ يصيح حتى سمعه الملك ،
فأطلّ من نافذة القصر ، فرأى ذلك البائس الفقير ، فأشار إلى الحرس أن يأذنوا له بالدّخول ،
فمثل بين يديه ، والدّموع على خده فطيّب خاطره ، ثم سأله عما حدث.
فروى له حكاية المرأة الجميلة ، فضحك الملك ، وقال : حمارك ثمن النّظر إليها ، فمع بنات حواء لا يوجد شيء بالمجّان!
وأمر له بعطاء جزيل ، فخرج مسروراً وهو لا يصدّق ما تراه عيناه وكان الوزير إلى جانب الملك ، يسمع ويرى ،
فحزّ في نفسه أن يحظى هذا الفقير بذلك العطاء الجزيل ، فمال على الملك ، وأوغر صدره عليه ،
هامسا إليه أنه ليس إلا محتالاً ، اختلق تلك القصة.
ثم طلب من الملك أن يأتي به ، ليمتحنه ويكشف احتياله ، فأرسل الملك الجند وراءه فأحضروه ،
فدخل مذعورا ، فأخبره الملك أن الوزير يريد أن يسأله عن شيء ، إن عرف الجواب أجزل له العطاء ، وإن لم يعرف قطع رأسه.
إقرأ أيضا: أقبلت إمراة كبيرة في العمر إلى أحد الأسواق في المدينة
فاضطرب الفقير واغتم ، ولكنّه أذعن لرغبة الملك ، عندئذٍ سأله الوزير : أين أول الدنيا؟ وأين آخرها؟
فكر قليلا ثم أجاب : “تبدأ الدنيا وتنتهي عند أقدام الملك!
فسرّ هذا الأخير بالجواب ، ونظر إلى الوزير ، فإذا هو صامت لا يجد ما يقوله ،
فأمر للفقير بضعف ما أعطاه أول مرة ، فأخذه الرّجل ، وخرج فرحا ، والوزير يتميز من الغيظ ،
وقال في نفسه : لقد أسعفك الحظ هذه المرّة أيها الوغد ، سنرى ما تفعله المرّة القادمة!
ولم يلبث أنّ مال على الملك ، وأكّد أن ذلك الفقير إحتال عليه ، ثمّ طلب منه أن يرسل في طلبه مرة أخرى ، فهذه المرة سيكشف خبثه.
فأرسل الملك الجند وراءه ، فأحضروه دخل الفقير ، وقد أدرك أنّ الوزير يكيد له ، ويغري الملك عليه ،
أعلمه إن عجز على الجواب ، فسيفقد رأسه.
رضخ الفقير فليس في الأمر حيلة ، سأله الوزير : أين يوجد وجه الله؟
فكر الفقير قليلا ، ثم طلب من الملك أن يأمر بإحضار شمعة ، فلمّا جاءوا بها ، أشعلها ، ووضعها أمامه ، ثم سأله : أين نور الشّمعة؟
أجاب الملك : “في كل الجهات” ، فالتفت الفقير إلى الوزير ، وأجابه. :
” وجه الله نور، وهو في كل مكان”.
فأعجب الملك بجوابه أيّما إعجاب ، وأجزل له العطاء ، فأخذ المال وخرج ، مزهواً بنصره.
ازداد ضيق الوزير وأمضى ليلته في أسوء حال ، ولكن لم يلبث أن حزم أمره ، ومال على الملك ،
وقال إن ذلك الفقير هو مشعوذ بارع في الكلام ، ولقد حان الوقت ليسترجع ما أعطاه له ويعاقبه على مكره.
إقتنع الملك ، وأرسل في طلبه ، لما حضر الفقير قال له للوزير سؤال أخير فإمّا أن أهبك بستانا من النخيل ،
أو أعلق رأسك على باب المدينة!
إقرأ أيضا: قصة الأستاذ خالد الجزء الأول
أيقن الفقير أنه لن ينجو هذه المرة فطلب أن يصلي ركعتين ، وعندما أتم صلاته أحس بالثقة في نفسه ولاح عليه التصميم ،
ولمّا أعاد عليه الملك الشّرط ، أكّد بحزم موافقته ، وقال للوزير هات ما عندك!
عندئذ سأله : ما هو عمل الله؟
لم يجب الفقير ، وفرح الوزير ، وقال في نفسه هذه المرة وقعت ، ليس في كل مرة تسلم الجرّة !
لكن الفقير التفت إلى الملك ، وسأله أن يعطيه الأمان ، فأومئ له برأسه ، فطلب منه أن يأمر الوزير بخلع ثيابه ، فأمره بذلك.
دهش الوزير، وارتبك ، محاولا التملص ، ولكن الملك أشار عليه بعدم النقاش ، ففعل ، وخلع الفقير ثيابه ، وألقاها على الوزير ،
ثم طلب منه إرتدائها ، فأمره الملك أن يرتدي ثياب الفقير ، فتردّد الوزير ، ثم تبسم ، واصطنع المزاح ،
ولكن الملك نظر إليه بحدّة ، فلم يجد بداً من الانصياع ، فارتدى ثيابه ، ولبس الفقير ثياب الوزير.
ثم التفت إلى الملك يسأله أن يأمر الوزير بالنزول عن كرسيه ، فأشار له أن يفعل ،
فحار في أمره وأحس أنه وقع في الفخ ، الذي نصبه للفقير ، صاح الملك في وجه وزيره : هيا تزحزح عن المقعد ، فلقد طال جلوسك عليه!
عندئذٍ صعد الفقير إلى جانب الملك ، وجلس على كرسي الوزير ، ثم التفت إليه ، وقال :
هذا هو الجواب على سؤالك إن عمل الله أن يرفع ناسا درجات ، وأن ينزل آخرين درجات!
فأعجب الملك بذكاء الفقير ، وقال له : لقد رضيت بحكم الله ، فأنت منذ اليوم وزيري ،
فبهت الوزير ، وصعق ، وقبل أن ينطق بشيء أمر الملك الجند أن يجلدوه عشرين جلدة على لؤمه ،
ثم التفت إلى الفقير وقال له أهنّأك على فطنتك فالدنيا ظالمة ، وعندما جاء حظك عرفنا قيمتك ،
وبان لنا معدنك ، أمّا الوزير فلم يحمد الله ، واستكثر عليك رزقك ، فأخذ الله منه النعمة ،
لا شيء يدوم هكذا هو الحال ، وسعد من فعل خير في دنياه.