خطبتها بعد أن أعجبت بها شكلا وتفكيرا فقد كانت بنظري صاحبة العقل الرزين ،
ولمست ذلك مع اللقاءات المتكررة والأحاديث المشتركة التي تجمعنا مع أهالينا وبيت خالي كونها إبنة خالتي ،
وأيقنت بالمقابل أنها معجبة بي عندما وافقت على إرتباطي بها فورا حين أخبرتها أنني أريد أن أتقدَّمَ لخطبتها.
لم أجعل الخطبة تدوم سوى بضعة أشهر فقد شعرت أن عيون الجميع لا تنظر إلا إلينا بكل زيارة تجمعنا ،
وكأنهم يراقبون كل نظرة وحركة نقوم بها ، فقطعت كل ذلك التوتر الذي شعرت به بإعلان موعد الزفاف.
بعد أسبوع واحد خاب ظني بها ، عندما فوجِئت بأول لقاء لنا مع الأهل بصفتنا أزواج ؛
أنها عَقَدَتْ حاجبيها طوال السهرة وهي تنظر لإبنة خالنا ، وكانت كلما حاولت الحديث معي ،
تُطْلِقُ زوجتي كلماتها كطلقات نارية وهي تردّ عليها عوضا عني ، مما جعل كل الموجودين ينظرون بدهشة وألسنَتَهُم تنعَقِدُ كلساني ،
مُرَجِحينَ ذلك للغيرة كما سمعتُهم يتهامسون ، فاعتذرتُ عن تكملة السهرة وانسَحَبْتُ مع زوجتي.
اإلتزمْتُ الصَّمتَ طوال الطريق وما إن دخلنا المنزل حتى سألْتُها عن سبب طريقة كلامها الفظة مع إبنة خالنا التي طالما كانت أكثر من أُخت بالنسبة لها ،
فأطلَقَت كلماتها بوجهي قائلة:
أتمزحُ يا ابن خالتي العزيزة ، وكأنَّكَ لا تعرفُ أنَّ إبنة خالك تحبكَ ،
فقد أخْبَرَتْكَ بذلكَ بعد أن أعلَنْتَ أنَّكَ ستَتَقَدَّمُ لخطبتي ، لكنَّكَ صمتْتَ وعلاماتُ الحزن بانَتْ على وجهِكَ بسبب قرار الإرتباط بي ،
فقدْ أخبَرَتْني هي بذلك ولم أُخبِر أمي حينها كي لا ترفضَ إرتباطنا وبذلك تُفسِحُ المجالَ لها بأخْذِ مكاني.
وقَفْتُ مصدوماً لا أقوى على النطق ، وعاد بي الزمن إلى الوراءِ بضعة أشهر ، فبعدَ أنْ أخبرتُ الجميع أني سآتي لخطبة إبنة خالتي ،
أرسلَتْ إبنة خالي لي رسالة نصية وهي جالسة أمامي أخبَرَتْني بها أني قد إستعجلتُ بقرارِ إرتباطي ،
إقرأ أيضا: كان قلبه رقيقا لا يحتمل أن يرى أحدا يشعر بالألم
فهي تُحبني أكثرَ من إبنة خالتي.
فعلاً حينها قد شعرتُ بالحزن ، لكن حَزِنْتُ لحالها ، فجميعنا كنا على علم بمشاعرها المُرهَفة بشكل كبير ،
كونها تبكي لأسباب لا تستدعي البكاء ، فكيف وهي تراني أتزوج أقرب صديقاتها إليها ؟!
شرحْتُ لزوجتي كل ما حدث بشكل مُفَصّل كي تعود كما عرفتها ولا تعيد ما فَعَلَتْهُ بتلك الليلة ،
لكني فوجِئْتُ بعد ذلك أنها قد إتصلت بخالنا في صباح اليوم التالي ، وأخبَرَتْهُ بكل شيء قُلْتُه لها بدون أن تُخبرني ماذا فَعَلَتٔ ،
مما جعلَ خالي يقطع صِلته بي وبأمي وخالتي من غير سابقِ إنذار ،
وكنا كلما إتصلنا به نخبره برغبتنا لزيارته كان يختلق في كل مرة سبب يمنعنا من القدوم إليه ،
لحين طفحَ الكيلُ مع أمي وخالتي وذهبَتَا إلى عملِهِ يسألانه عن السبب وبعد أن قص لهما ما حدث ،
قاما بلومي وتأنيب زوجتي كونها لم تكتفي بإخباره بما حدث بل طلبَتْ منه منع إبنتهِ عن مُحادثتي.
عندما لم تستطيعا وَصلَ خالي لأشهر ، أصْبَحَتْ كل واحدةٍ تمارسُ دورَ “الحماية” وتُلقي اللوم على تربية الأخرى ،
مما جعل صلتهما ببعضهما تنقطع ، وقامَت خالتي بقطع علاقتها معي ، وأمي بقطع علاقتها مع زوجتي ،
فباتَت كلما رغِبَتْ أمي برؤيتي تتصل شخصيا بي كي آتي وحدي لزيارتها ، وكذلك خالتي مع إبنتها.
لقد وضّحتُ لخالي سوءَ الفهم الذي حصل حالما عَرِفْتُ بسبب إنقطاعه عنا ،
لكني صُدِمْتُ بإصرارهِ على رأيه بأني أنا الذي جعلتُ إبنته وزوجتي تعتقدانِ أني أحبهما بسبب مزاحي معهما وإطراءاتي لهما بكل مرة أراهما بها ،
غير الأحاديثِ التي كنتُ أفتحها معهما ، وبَقِيَ مُنقَطِعاً عن الجميعِ سنتان.
كانت تلك السنتين من أسوأ السنين التي عشتها ، فقد كنتُ أختنقُ من الخيبة بمن كانوا أقرب الناس لي ،
بدءاً من قطيعة الرحم التي حَصَلَتْ ورابط القرابة الضعيف الذي قُطِعَ عند أول مشكلة ،
إلى التمسك بسوء الظن ، وسمعتي التي أصبَحَتْ سيئة بين الناس.
إقرأ أيضا: أتحبها يا صديقي ؟
ولأنَّ زوجتي هي التي أشْعَلَتْ فتيلَ المشكلة ، كنتُ أراها دوماً السبب بالحزن الذي أعيشه ،
رغم أني حاولتُ جاهداً أن أنسى ما فَعَلَتْ لكن الألم كان أكبر من قُدرتي على النسيان أو التَّحمُل ،
مما جعلني أُطَّلِقها وأسافرُ للعيشِِ في دولةٍ مُجاورة.
من أوَّلِ سنةٍ تعرَّفتُ على فتاةٍ بالعمل ، بعد أن مَضَتْ بضع أشهر إلتَقَينا بها بشكل يومي ،
فَبَادَرَتْ هي بدعوتي لإحتساءِ القهوة كوني ضيفٌ لديهم ،
وبعدَ بضعِ لقاءات سألَتَني عن وضعي الإجتماعي ثم عن سبب الطلاق فَأَخبَرْتُها بكل ما حَدَث ،
ولم تمضي بضعة أيامٍ حتى إتَّصَلَتْ بي قائلة :
أبي يرغب بالتعرُّف إليك.
ذهبْتُ للقاءِهِ وأنا أتَعَجَّبُ من سببِ رغبَتِهِ بالتعرُّفِ بي.
عندما دخلتُ وبعد إلقاءِ التَّحيةِ قالَ لي :
أخبَرَتْني إبنتي بكل ما حَدَثَ معك فطلبتُ لقاءَكَ لتُعيدَ لي ما قُلْتُهُ لها.
لم أفهَمْ سببَ ذلك ولم أسأله حتى ، فقد كان حديثي مرة أخرى عن خيبتي بأقاربي ،
فرصةً كي أُخَفّفَ حزني كوني لم أُخبِر أحداً بألمي قط سوى إبنته ، وبعد بضعةِ أيام إتصل بي والدها شخصياً ودعاني لتناول الغداء ،
وبعد أن إنتهينا قال لي :
لقد مَنَّ الله عليَّ بنعمةِ أني أعرِفُ الخبيث من الطيب من بني البشر بمجرَّد أول حديثٍ لي معهم ،
وهذا الذي جعلني أُبعِدُ عن طريقي كل من أرادَ بي وبعائلتي سوءاً ،
وجعلْتُ مكانة عائلتي بين النّاس بالأعالي بالسمعةِ الحسنة بسبب معاشرتي للناس الطيبة ،
ويشهدُ الله أني قد صَدَّقتُكَ وارتَحْتُ لك من أوّل لقاءٍ بك وأريدُ تزويجَكَ إبنتي ،
وكأنَّ الله قد اصطفاكَ لها من بين كل العرسان الذين تقدَّموا لها ورفَضْتُهم لعدم شعوري بالراحة لهم.
شعرتُ حينها أنَّ كل الألم الذي عشتُهُ قد إختفى بلحظة فقد جَبَرَ خاطري بتلك الكلمات التي قالها ،
إقرأ أيضا: يقول أحدهم بعد يوم طويل وشاق من العمل
وأنَّ الله قد كشفَ لي الزَّيفَ الذي عشته ليدُّلني على أناس صادقة صريحة مُتحابّة.
وافقتُ بنفس اللحظة على الزواج بابنته ، وأصرَّ أبيها أن يتكّلف بمصاريف قدوم أمي وأبي وأختايَ الصغيرَتَين لحضورِ حفل الزفاف ،
وبعدَ أن تمَّ الزواج عشتُ أجملَ السنين مع زوجتي وعائلتها ، وأصبَحَتْ حياتي مملوءة بالحب والتفاهم ،
فلم يكنْ أحدٌ منهم يسمحُ لسوءِ فهمٍ أو ظن بأن يُخَرّب علاقته بأي فردٍ من العائلة ،
وبتُّ أَنْدَهُ لكلِ واحدٍ منهم كما تَندَهُ زوجتي لهم أمي وأبي ، أختي وأخي.