خمس دقائق
خمس دقائق
أتركني يا أبي مع الصحبة الصالحة
إستيقظ الحاج (عبد الواحد) من نومه وصوت إبنه الشهيد (محمد) يتردد في أذنيه ، صورته لم تفارق عينيه بالرغم من أنه إستيقظ.
سمع أذان الفجر ، شعر أنها رؤية ورسالة ، نهض إرتدى ملابسه ، إتجه للمسجد ، طوال طريقه وعبارة ولده تتردد في أذانه ،
بعدما أنهى صلاته ، توجه لمحطة القطار المتجه للسويس ، ومنها لمنطقة (كسفريت) الواقعة بين (فايد) و(السويس).
يود لو أنه يمتلك أجنحة ، ليطير بها ليصل لهدفه ، فطوال أكثر من ثلاثين عاما ، وهو يمني نفسه بتلك اللحظة.
فبعدما إنتهت حرب أكتوبر ، وأبلغه الجيش بأن ولده شهيد ، عاش لعدة سنوات يمني نفسه برجوعه لأحضانه ،
خصوصا إنهم لم يعثروا على جثمانه ، وهو ما كان يعتبره الأب ضوءا خافتا ، وأمل تعلق به ، لعل الغائب يعود يوما.
بعد مرور عشر سنوات ، إقتنع أخيرا بأن إبنه إستشهد ، خاصة وأنه رأه في أحلامه ، مرتديا ملابس تسر العين ، ووجهه يطل النور منه ،
يبتسم برضا ، ويخبرع بأنه في أعلى الدرجات بالجنة.
وها هو بعد ثلاثون عاما ، يتلقى إتصال هاتفي ، من الشئون المعنوية للقوات المسلحة ، يخبروه أنهم عثروا على جثمان ولده الشهيد.
إنتابه حينها شعور غريب ، يشعر بالسعادة ، لأنه أخيرا سيقوم بدفن ولده في مقابر العائلة ويستريح قلبه ،
بعدما ظل طوال تلك السنوات الماضية تؤرقه فكرة ، ماذا حدث لولده بالضبط؟
وفي نفس الوقت يشعر بالحزن شديد ، فالبرغم من مرور كل تلك السنوات ، حينما سمع جملة (جثمان ولدك).
توقف الزمن به للحظات ، تجددت أحزانه مرة أخرى ، وكانه يسمع الخبر للمرة الأولى.
وصل لوجهته حيث المنطقة العسكرية التي طلبوا منه الحضور إليها ، أدخلوه للإستراحة بجانب البوابة ، وجد هناك الكثيرين مثله ،
إقرأ أيضا: ﺃﻏﺮﺏ ﺣﺎﻟﺔ إنتحار ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ الأمريكي ﺭﻭﻧﺎﻟﺪ ﺃﻭﺑﻮﺱ
بادر أحد الجالسين بالحديث قائلا :
هل أنت هنا أيضا بخصوص إستخراج الجثامين؟
نعم ، هل عثروا على جثمان إبنك أنت أيضا ؟
نعم.
قطع حديثهم دخول رجل طويل القامة ، يرتدي الملابس العسكرية ، يحمل على كتفيه رتبة اللواء.
ألقى السلام على الجالسين ، جذب كرسي وجلس بجانبهم ، وخاطبهم قائلا :
في البداية أود أن أقدم إليكم التعازي في وفاة أبنائنا ، لكنني أعلم علم اليقين إنهم الأن في مكان أفضل بكثير وندعوا الله أن نلحق بهم ويكونوا شفعاء لنا.
أثارت كلماته الحزن في نفوس الحاضرين ، فاضت أعينهم بالدمع ، خاطبهم قائلا :
أسف اذا كنت آثرت أحزانكم ، لكن ما سوف أخبركم به سوف يجعلكم سعداء ، فخورين بما قام به أبنائكم.
أسند (محمد) ظهره على صخر الكهف التي يختبئ بداخله وباقي أفراد السرية الأولى ،
أو على وجه الدقة جثامين الشهداء الذين فارقوا الحياة ، والذي كان آخرهم (الشبراوي) الذى توفي منذ ست ساعات.
حاول النهوض أكثر من مرة ، لكن قواه خارت ، لم يستطع النهوض ، فهو لم يتناول الطعام منذ عشر أيام ، ولم تدخل جوفه قطرة ماء منذ ثلاث أيام.
بدء اليأس والإستسلام يسيطران عليه ، شعر بإقتراب أجله ، لكنه تذكر العهد الذى قطعوه على أنفسهم حينما دخلوا لذلك الكهف ، ليختبوأ من الأسر.
من يظل منهم للنهاية عليه أن يقوم بدفن من يستشهد منهم بطريقة لائقة ، وهذا ما كان يفعله بمساعدة(الشبراوي) قبل أن يلحق هذا الأخير بمن سبقوه.
حيث كانا يضعان الشهيد على شقه الأيمن ، في مواجهة القبلة التي أخبرتهم البوصلة التي يحملونها بإتجاهها ،
ويضعان سلاحة بجانب صدره.
عندما تذكر العهد ، شعر بقوة عجيبة تسري في أوصاله ، حاول التحامل على نفسه حتى تمكن من فعلها ،
أنحني ممسكا بذراعي (الشبراوي) الذي كان يقبض على سلاحه بهما ، وضع السلاح جانبا ، وبدأ في سحبه بصعوبة بالغة.
سقط خلال محاولاته لوضع الشهيد في المكان الذي يريده ، أكثر من خمس مرات ، لكنه في النهاية تمكن من تحقيق ما يريد.
بمجرد أن وضع سلاح ذلك الأخير بالقرب من صدره كالآخرين ، حتى سقط أرضا ، إرتطمت رأسه بالأرض وغابت الرؤية عن عينيه.
فتح عينيه وهو يشعر بألم شديد في رأسه ، أدرك أنه لم ينال الشهادة بعد ، لقد فقد وعية فقط.
إقرأ أيضا: مات أحد شيوخ العشائر وأرادت العشيرة تنصيب شيخ جديد
تذكر ما رأه أثناء ما كان فاقدا للوعي ، كان يجلس بجوار نهر تحيط به مساحة شاسعة من الأرض الخضراء ،
أمامه كل أنواع الفاكهة وماء مثلج ، شرب منه الكثير.
عجبا إنه لا يشعر بأي جوع أو عطش ، وكأن ما رأه حدث له بالفعل ، لكن جسده ما زال غير قادرا على الحركة ،
بصعوبة إستطاع الوصول بيده ، للمذاكرة الصغيرة التي كان يدون بها ما حدث لهم منذ دخولهم للكهف ، أمسك بها وبالقلم ، وبدأ يكتب.
(الساعة الأن الخامسة عصرا ، إستشهد جميع أفراد السرية الأولى ، بعدما قمنا بالمهمة التي كلفنا بها على أكمل وجه ،
وألحقنا بالعدو خسائر فادحة ، لكن أثناء عودتنا قام العدو بحصارنا ، ولم نجد ملجأ سوى تلك الجبال ،
إختبأنا بداخل الكهف لخمس عشر يوما ، بعد خمس أيام من الحصار ، نفذ الطعام والشراب ، يمرون بالطائرات الهليكوبتر ،
يخاطبوننا بالعربية أن نستسلم ولن يلحقوا بنا أي أذى ، لكننا جميعا عاهدنا(الله) على أن نموت ونحن نقاتل أو عطشا ،
على أن نعيش والعار يلاحقنا ويلاحق جيشنا.
وها أنا “محمد عبد الواحد” أخر أفراد السرية أكتب تلك الرسالة ، وأنا موشك على اللحاق بمن سبقوني ، لعل (الله) يرسل من يراها ويعلم بما فعلناه من أجل مصر).
وضع المذكرة والقلم جانبا ، نام على شقه الأيمن ، بجوار باقي أصدقائه ، إحتضن سلاحه ، ردد الشهادة ثلاث مرات بصوت مرتفع ، فاضت بعدها روحه إلى ربها.
وقف الحاج (عبد الواحد) وباقي أسر الشهداء وسط سلسلة من الجبال تتوسط الصحراء ،
بينما كان هناك بعض الجنود يقومون بحمل جثامين الشهداء ، ملتفة بعلم مصر.
خاطب اللواء الحاضرين قائلا:
من واجبي أن أخبركم بأمر ولكم حرية القرار بعدها.
إقرأ أيضا: لصوص من الزمن الجميل
إنتبهوا له جميعا ، فأكمل قائلا :
لقد أوصى الشهداء في مذكرة وجدناها بجوارهم أن يدفنوا حيث إستشهدوا وأن يظلوا سويا.
تعجب الحاج(عبد الواحد) مما سمع ، فلقد زاره ولده في رؤية وأخبره بهذا الأمر ، وما زاد تعجبه أكثر،
أن جميع الحاضرين تحدثوا عن إنهم رأوا أولادهم وأخبروهم بذلك أيضا.
لم يجد مفر من الإنصياع لوصية الشهيد ، وكذلك فعل جميع الحاضرين.
بعدما إنتهوا من دفن الجثامين في رمال سيناء التي ضحوا بأرواحهم في سبيلها ، وقاموا بأداء صلاة الجنازة.
إقترب اللواء من الحاج(عبد الواحد)، وهو يخاطبه قائلا :
هناك أمانة لك يا حاج.
عن أي أمانة تتحدث.
توجة اللواء لسيارته الواقفة بالقرب منهما ، عاد مسرعا وهو يمسك بمفكرة صغيرة بين يديه ،
أعطاها للحاج (عبد الواحد) وهو يخاطبه قائلا :
هذه الرسالة خطها ولدك الشهيد قبل وفاته بخمس دقائق ، وكان يتمنى أن يأتي اليوم ويقرأها أحد.
وأظن أنك الأحق بقراءتها والإحتفاظ بها.