رواية لغة الطيور الجزء الأخير
رواية لغة الطيور الجزء الأخير
أحست الأميرة نورا بالحزن الشديد لغياب إسكندر ، وبقيت في غرفتها وحيدة ، وكفت عن الطعام والشراب ،
فلقد تعلق قلبها بذلك الفتى وأعجبتها الحياة بين الزهور الرياحين ،
وكل تلك الطيور التي أصبحت تجلس بجوارها وتأكل من يديها اللطيفتين ، لقد كان حلما جميلا.
جوّ القصر رتيب كل شيء يسير مثل ساعة الحائط ، ويدور في حلقة مفرغة.
لما رآها أبوها على هذه الحالة أحسّ بالذّنب ، لكنه قال في نفسه كان لا بد من فعل ذلك وإلا لأصبح ذلك الولد ملكا لمّا أموت!
إستدعى لها الأطباء والمغنّين ، وقصّاص الحكايات ، لكن لم تتغيّر حالها ، وزاد لونها في الشّحوب وبدأت الحياة تغادرها.
قالت الملكة لزوجها لم يبق لنا سوى الطبّاخ ، أطلب منه أن يأتينا من الغابة بشيء يزيل عنها الكآبة ، أليس هو من شفاك من مرضك؟
أجاب : فكرة حسنة ، لا أعرف لماذا نسيت ذلك الرجل ، سأرسل في طلبه حالا.
لما مثل الطباخ بين يديه قال له إن إبنتي نورا تحسّ بالحزن لذهاب ذلك البستاني ، وأريد أن تصف لنا بعض الحشائش ليزول ما بها ، وتنبسط نفسها!
قال الطباخ هذه المرة إنتهى أمري ، لا بد أن أعلمه بالحقيقة لعله يعفو عني.
فجثا على ركبتيه ، وقال : الرحمة يا مولاي ، فإنما أنا طباخ لا أفهم سوى طهي الطعام ، ولا أعرف شيئا عن الحشائش ، ولا الطب!
أجابه الملك ويحك! وزهرة البنفسج ، كيف علمت بأمرها؟
قال : إسكندر هو من تسلل إلى المطبخ ، ورماها في القدر ، ولمّا حبسته طلب مني كتمان الأمر عنك.
ثار الملك ، وصاح : الآن فقط تعلمني بذلك؟ وكيف يدخل أحدهم إلى مطبخي دون أن تراه ، سأعاقبك على ذلك ، والآن أغرب عن وجهي!
ثم نزل إلى الحديقة ، ولمّا قابل البستاني العجوز قال له :
ستخبرني كل ما تعرفه عن تلميذك ولا تخفي شيئا ، أنا أنصحك بذلك ، هل تفهم؟
إقرأ أيضا: الخاتم العجيب الجزء الأول
أجاب العجوز : ذلك الفتى هو من وجد كلّ ما أضعته ، وأرجعها لك ، إن الطيور تعلمه بكل شيء!
لقد قال لي يوما ذلك ، لكن لم أصدق حتى رأيتها تحوم حوله ، وبما أن إبنتك تقضي كل وقتها معه ،
أصبحت تحبها وتجتمع حولها وتغرد لها أجمل الألحان.
قال الملك : هذا مدهش ، لكن لماذا لم يقل لي ذلك؟
كنت سأكافئه ، وربّما جعلته من جلسائي ليحكي لي ما تقوله الطيور!
إسمع عليك أن تذهب إلى ضيعة التفاحة الذهبية وتأتي به ، قل له أن الملك يريدك.
ذهب البستاني إلى تلك الضّيعة ، وبعد كثير من العناء وجده ، لكن إسكندر قال : إعلم سيدك أني مستريح هنا ،
فأخاف أن يكتشف سرّي ، ويرميني بعيدا ،
مازلت أتذكر ما فعله أبي لما رويت له نبوءة ذلك العصفور الرّمادي.
أجابه العجوز : لقد سألني عنك ، وأخبرته بكلّ شيء.
قال : وماذا يريد مني؟ ألم يطردني من القصر ؟ ألم يفعل ذلك ليبعدني عن الأميرة؟
قَال العجوز : لهذا السبب يريدك أن تحضر ، فهي مريضة جدا ، ولم تعد تأكل ولا تشرب.
ظهر الذعر على وجه الفتى ، وقال : هيّا بنا فليس لنا وقت نضيّعه.
دخل الملك على إبنته ، وقال لها : هناك شخص يريد رؤيتك!
ردّت بصوت ضعيف : دعني وشأني يا أبي ، أريد أن أرحل بسلام.
إتجه إسكندر إلى النافذة وفتحها ، فلما رأته العصافير ، دخلت إلى الغرفة وبدأت تغني :
جاءك الفتى إسكندر
أرسله الملك إلى البيدر
لكنه رجع لأجل عيونك
ليحارب من أجلك
ولو اجتمع كسرى وقيصر
لأنه يحبّك ويعشقك
يا وردة الحبّ
ويا مسك ويا عنبر!
كانت الأميرة نورا ممدّدة على الفراش مغمضة العينين ، وسمعت غناء العصافير ، فقالت: ما أحلى هذا الغناء ،
منذ متى يعجبك صوت العصافير يا أبي ، ستكون آخر شيء أسمعه ،
لكن فجأة أصبحت الفتاة تفهم معنى الأغنية ، ففتحت عينيها ، وصاحت : أين إسكندر أيتها الطيور؟
إقرأ أيضا: قسمتي ونصيبي الجزء الأول
فأجابها : أنا بجانبك يا حبيبتي ، منذ إفترقنا لم أنساك يوما!
قبلّها في جبينها ، فسرت الحياة في عروقها ، ورجعت حمرة خديها ، ولما رآها الملك عانقها وبكى ،
وقال لن يبتعد عنك إسكندر بعد الآن ، وصاح : أرسلوا المنادي في الأسواق ، فالأسبوع القادم زواج الأميرة نورا ،
وليعلم الحاضر الغائب.
سمع الناس بذلك وابتهجوا فقد كان الجميع يحبّها لرقتها ، وطيبة قلبها.
وبعد فترة جعل الملك إسكندر وليّ عهده ، فزرع الأشجار في كل مكان ، واستصلح الأراضي ، وبذر الحبوب ،
وكانت الصّابة عظيمة ، وبدأ يبيع للممالك المجاورة حتى كثر المال وعم الخير ،
وأصبح الناس يدعون لاسكندر بطول العمر.
جائه الملك يوما وقال: سأتنازل لك عن العرش ، فأنا أريد أن أرتاح من أعباء الحكم ،
ولقد أثبتت كفائتك ، وحسن تدبيرك هنيئا لك يا إبني ، وأوصيك خيرا بنورا ، فليس لي غيرها.
وتحقّقت نبوءة العصفور الرمادي ، لقد صار ذلك الفتى ملكا ، بعد أن كاد يغرق في البحر.
أمّا أبوه فلم تطل به أيّام العز ، فكسدت تجارته ، وباع دكانه ، وبيته ،
وذهب مع إمرأته إلى عاصمة المملكة المطلة على البحر ، وهناك تأجّرا بيتا ضفيرا في أحد الأحياء ،
وأصبح يشتغل كنّاسا للشوارع ، ويتحسر على ما مضى من أيامه ،
وتذكر إسكندر ،فقال في نفسه ، لعل ما حصل لي كان عقابا من الله على ما فعلته به فهو لا يستحق ذلك.
أحد الأيام كان يكنس ، فمرّ به موكب الملك ، ودفعه أحد الحرّاس لكي يبتعد لكنّه سقط أرضا ،
فلمّا رآى إسكندر ما حدث له ، نزل عن جواده ، وقال للحارس : ليس عنك الحق لتمنع الرّجل عن العمل لمجرد أنّي مررت بالطريق ،
هيا ساعدوا ذلك الكنّاس على النهوض ، واعطوه صرة نقود تعويضا له!
إقترب الرّجل من إسكندر ليشكره على معروفه ، ولمّا رآه الفتى عرفه ، وصاح : أبي! ما الذي جرى لك ، وأين أمّي؟
إستدعى الملك أباه وأمّه للقصر ، وأعطاهما غرفة نظيفة ، وأصلح من شأنهما ، ثم قصّ عليهما حكايته ،
فتعجبا أشدّ العجب ، وقالا : لقد كتبت الأقدار حياتك وغناها لك العصفور الرّمادي ، فما أعجب غناء العصافير! وهمسات الفراشات في الحقول!