شعرة بيضاء
شعرة بيضاء
لازال يتذكر ذلك اليوم جيدا ، عندما أكمل عامه الثلاثين ، حينما رآها في مقدمة الجانب الأيمن من رأسه ، وهو يطالع المرآة ،
شعرة بيضاء تقف وحيدة على استحياء وسط شعره الأسود الغزير الذي يكسو رأسه.
شعر حينها بشعور غريب لم يسبق أن مر به من قبل ، فرحة أن الشيب أصبح يتسلل لشعره ،
وهو ما سوف يعطيه الكثير من الهيبة والحكمة ، وهو أمر محبب للنفوس فى عرف الرجال ،
يمتزج ذلك الشعور ببعض الرهبة ، من التقدم في السن.
فقد كان ينظر لمن في سن الثلاثين عندما كان مراهقا على إنهم رجال كبار ، وها هو قد أصبح أحد هؤلاء الكبار بدون أن يشعر.
أخذ يدير رأسه يمينا ويسارا وهو يطالعها في المرآة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة.
تذكر ذلك الموقف بعدما عاد من أخر يوم له في العمل وقد أحيل للتقاعد بسبب بلوغه سن المعاش ،
وقف أمام المرآة المعلقة بداخل المرحاض تعلو المغسلة ، أخذ ينظر لرأسه التي أصابها الصلع وتساقط الشعر منها ،
ولم يعد متبقي بها سوى القليل على جانبيها وقد اكتسى بالشيب ،
كما لو أنها أصبحت أرض بور لا تنبت تركها أصحابها للبحث عن مكان أخر.
ابتسم بهدوء نفس الإبتسامة التي سبق وأن فعلها قبل ثلاثين عام عندما رأى تلك الشعرة لأول مرة ،
حدث نفسه بأنه ها هو قطار العمر قد قارب على الوصول للمحطة الأخيرة ، بعدما ظهرت التجاعيد بقوة أسفل عينيه وعلى جانبي فمه وعنقه.
لا يدري لما تفاجأ عندما أخذ يدقق النظر لوجهه في المرآة ، مع أنه يطالعه بصورة يومية طوال السنوات الماضية ،
لكنه لم يلاحظ تلك التغيرات الطفيفة التي تطرأ عليه يوما بعد الأخر حتى أصبح ما هو عليه الأن ،
يشعر وكأنه كان نائما واستيقظ متفاجأ بالتغير الذي حل به دون أن يشعر.
إقرأ أيضا: الأميرة وأوراق الشجر
أخرج حافظة نقوده ، قام بفتحها وهو يمسك بصورته التي يحتفظ بها داخلها والتي يتذكر أنها كانت في أولى سنوات دراسته الجامعية ،
أخذ ينظر لشعره الأسود الطويل ، وعينيه التي يشع منهما الكثير من الأمل والتفاؤل ،
وصدره الممشوق الذي يظهر بوضوح أسفل الصورة ، بعد دقيقة من الشرود عاد ينظر للمرآة مرة أخرى.
ليرى كيف تبدل حال ذلك الشاب بسرعة البرق ليصبح عجوز انطفأ الأمل في عيناه ، وتساقط شعره ،
وأصبح يعاني من الضغط والسكر وألام عموده الفقري ، والدواء الذي لا يفارق حقيبته الجلدية الصغيرة التى يحملها دوما ،
بالإضافة لزيارته المنتظمة للأطباء بصورة شهرية.
بدون أن يشعر انسابت من عينيه دمعة حارة على ما آل إليه حاله ، وبينما كان يتنقل بعينه بين الصورة والمرآة ،
سمع صوت زوجته تخبره من إنها انتهت من وضع الطعام على المنضدة.
مسح دموعه بيديه وقام بغسل وجهه ، بعدما أعاد الصورة لموضعها السابق ، خرج وهو يحاول رسم إبتسامة هادئة على شفتيه ،
جلس على المقعد الخاص به وبدأ في تناول الطعام ، لا يدري لما نظر لشعر إبنه الجالس إلى يمينه ،
خيل إليه أن هناك شعرة بيضاء قد بدأت تغزو جانب رأسه أم أنه يخيل إليه ،
عدل من وضع نظارته ليتمكن من الرؤية بوضوح ،
بالفعل كان هناك شعرة بيضاء تنمو على استحياء في رأس صغيرة الذي لم يبلغ الثلاثين بعد.