طاووس بن كيسان
طاووس بن كيسان
روى الإمام الزهري أن سليمان بن عبد الملك رأى في الحج رجلا يطوف بالبيت
له جمال وكمال ،
فقال : من هذا يا زهري ؟ قال : هذا طاووس ، وقد أدرك عدة من الصحابة ، فأرسل إليه سليمان ،
فأتاه فدخل عليه في قوة المؤمن ، وإيمان القوي، لم ينخلع قلبه فزعا ، ولم يسل لعابه طمعا.
فقال له : لو ما حدثتنا؟ وقال طاووس في نفسه : هذا مقام يسألني الله عنه ،
فلم يكن حديثه إلى الخليفة حديث الخائف أو المادح ، إن المدح والإطراء بضاعة الشعراء لا بضاعة العلماء ،
ومهمة العالم أن يوجه وينذر لا أن يحرق البخور ، فماذا قال طاووس؟
قال : حدثني أبو موسى قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم :
إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم ،
والحديث ناطق ، ناصع لا يحتاج إلى تعليق.
فتغير وجه سليمان وأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : لو ما حدثتنا؟
قال : حدثني رجل من أصحاب النبي صل الله عليه وسلم قال : دعاني رسول الله صل الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش ،
ثم قال : إن لكم على قريش حقا ، ولهم على الناس حق ، إذا إسترحموا رحموا ، وإذا حكموا عدلوا ،
وإذا ائتمنوا أدوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،
لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا.
وتغيَّر وجه سليمان للمرة الثانية وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال : لو ما حدثتنا؟
فقال : حدثني إبن عباس : أن آخر آية نزلت من كتاب الله :
[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}وكذلك يكبر العالم بعلمه وإيمانه ويرتفع حتى يصير كالجبل ، ويتضاءل أمامه الأمراء والخلفاء حتى يصيروا كالذباب.
إقرأ أيضا: رجاء بن حيوة
وإنما جرَّأه على هؤلاء أنه لم يكن يطمع في شيء عندهم ، ولا يخافهم على شيء عنده ، وفيم يطمع؟
وعلام يخاف؟ الناس يطمعون في دنيا الأمراء ، وهو استدبرهم وراء ظهره ، ويخافونهم على الرزق والأجل ،
وهو يعلم أن ليس في أيديهم من أمرهما شيء ، حتى يأمل منهم الزيادة ، أو يخشى منهم النقصان.
التحرر من الخوف والطمع ، والرغبة في وجه الله وحده هما مفتاح تلك الشخصية الفارعة ، وقد قيل :
إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله خوف الله منه كل شيء.
قدم طاووس بمكة ، وقدم إليها أمير المؤمنين فقيل لطاووس : إن من فضله ، ومن ، ومن ، فلو أتيته؟
قال : مالي إليه من حاجة ، فقالوا : إنا نخافه عليك!
قال : فما هو إذن كما تقولون! وصدق طاووس.
فأي فضل لحاكم يخشى الناس بطشه وأذاه أن يمتد إلى العلماء والهداة!
وكان يقول لعطاء بن أبي رباح فقيه مكة : يا عطاء ، إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ،
وجعل دونه حجابه ، وعليك بطلب من بابه.