Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
قصص منوعة

على سرير بإحدى المشافي كان مستلقيا

على سرير بإحدى المشافي كان مستلقيا بما تبقى من رفاث عظام وجلد مترهل وشعيرات بيضاء قليلة في مؤخرة رأسه.

كانت عيناه ساهمتان في سطح الغرفة بينما يتدفق سائل شفاف في عروقه ،

اقترب منه شاب في مقتبل العمر بوزرته البيضاء وملابسه الزرقاء ألقى عليه التحية ببشاشة ،

ثم تفقد الحقيبة الصغيرة المعلقة عند رأسه والتي أوشك السائل الشفاف على النفاذ منها ،

فبدلها بأخرى وهو يحدث الشيخ الهرم قائلا :
كيف حالك اليوم؟

أجابه دون أن يزيح عينيه قيد أنملة عن سطح الغرفة :

نحمد الله يا بني ما دامت الروح تسكن جنباتنا بأمان.

معك حق الحمد لله على كل حال.

أحضر الفتى كرسيا ليجلس بجوار سريره ثم حمل يد الشيخ وبدأ يدلكها برفق كي لا يفقع إحدى عروقها البارزة.

ألم يسبق لي أن حكيت لك كيف التقيت زوجتي يا فتى.

عض الشاب على شفتيه وهو يطالع وجهه الفاني وتلك الأخاديد الغائرة التي تكونت تحت عيونه جراء طول السهر وغزارة دموعه ،

ابتلع ريقه ليتخلص من تلك الغصة التي توقفت في حلقه وأجابه محافظا على ثباته :

لا ، لا أذكر أنك حكيت لي عنها من قبل.

اه يا ولدي كم كانت رائعة ، تلك الوردة المسقية بمياه العفاف الطاهرة ،

جميلة كقمر خجول توارى عن السماء تاركا ضوءه الخافت ، هادئة كبحيرة عذبة مستقرة بين جبلين.

أين التقيتها أول مرة؟

سأله وهو يداري دمعة تسللت من بين جفونه فجأة.

إقرأ أيضا: أشهر نصابة في القرن العشرين

كانت ما تزال زهرة غضة متفتحة حينها ، رأيتها مرات عديدة وهي تمشي على استحياء أمام مستوصفي ذاهبة إلى السوق ،

تحكم لف حجابها وترفل في جلبابها الطويل ، تمنيت كثيرا لو استطعت فقط أن أكلمها وأسألها عن عنوان بيتها ،

لكن شجاعتي كانت تخونني كلما مرت أمامي ، إلى أن..

انتفض الشاب من مكانه حين انخرط الشيخ في السعال ، ساعده على الجلوس فتوقف والتقط أنفاسه بصعوبة ،

ثم ابتسم في وجه الشاب بفم شبه فارغ محاولا طمأنته.

إلى أن جاءت إلي بنفسها في إحدي الليالي المقمرة ، لاهثة باكية متوسلة إياي كي أعالج والدها العجوز ،

الذي ضربه أحد الدائنين حتى أغمي عليه.

تمنيت لو توقف بي الزمن لبرهة بسيطة كي أتأمل وجهها الملائكي لأول مرة ،

لكنني غضضت بصري عنها فزاد فخري بنفسي وركضت معها نحو بيتهم الصغير.

مرت تلك الليلة لكنني كنت أزورهم مرتين في الأسبوع كي أغير ضمادات والدها ،

وكي أرى محبوبتي الصغيرة التي كانت تتوارى عن الأنظار ما إن أدخل بيتهم.

مرت الأيام واستجمعت شجاعتي وتقدمت لخطبتها ، صمت قليلا وكأنه يستحضر المشاهد أمام عينيه ويبتسم مع كل ذكرى ثم أكمل قائلا :

حين تزوجنا عرفت أنني لم أحبها لجمالها ولم يهمني مستواها ولا حتى أصلها ،

لكن سحرتني عفتها واستوقفني حياءها وألهمني حسن صفاتها وجمال أخلاقها.

صحيح أنني كنت أكبرها بسنوات عديدة لكن تلك الصغيرة أحيت قلبي وعلمتني كيف أعيش في سبيل طاعة الله ،

تلك الصغيرة يا ولدي لم تعد ملكي الآن وقد التهمها التراب والتهمتني الأحزان منذ زمن.

زم شفتيه وأغمض عينيه بعد كلماته الأخيرة ، تمنى لو اسطاع ذرف الدموع لكن منابعها قد جفت منذ زمن.

صمت طويلا ففهم الشاب أن الشيخ قد نام وأن الحكاية قد انتهت ،

مسح عيونه المحمرة من كثرة البكاء وغطى والده النائم في سلام تراجع خطوات إلى الوراء وهو يقول في نفسه ،

أن هذه هي المرة الخمسين التي سمع فيها قصة أمه على لسان أبيه منذ إصابته بالزهايمر ،

وها هو يبكي بشدة كأنه يسمع هذه القصة لأول مرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?