غرسة بالجنة
غرسة بالجنة
مضى على زواجنا ست سنوات ، وقد رزقنا الله بأربع من البنات الجميلات ،
وبعد أن أكدت لي الطبيبة حملي الجديد ، إزداد توتري ، وخوفي رغم إن زوجي بكل مرة يفرح بالبنت وكأنها الأولى!
ولا يكسر بخاطري ولو بحرف واحد يوجه لي ولا حتى عن طريق التلميح!
لكن خوفي بكل مرة كان بسبب كلام أهله ، وبالأخص والدته التي تتذمر من خلفتي الدائمة للبنات ،
ولطالما أخبرتْ زوجي بأن عليه بالزواج ممن تنجب له ولدًا يحمل اسمه!
استيقظتُ على صلاة الفجر على صوت دعائه ،
وهو يهمس به راجيًا بصوت شبه مسموع لله بجوف الأرض بسجوده ويردد : اللهم طفلًا ذكرًا يحمل اسمي ، ويكون سندًا لأخواته الإناث!
وقفت خلفه اتأمله دون أن يلمحني بكل هدوء ،
ولكني شعرت وكأن بكاء الكون كله تجمع بداخل حنجرتي ، رغم إننا كنا لا نعلم بتلك اللحظة ما هو جنس الجنين بعد!
هربت فورًا من خلفه وأنا ارتدي ثوب صلاتي، ودخلت غرفتي وصليت ودعوت الله لنا و أن يقبل دعوات زوجي وأن يفرح قلبه مما يرجوه.
وانهمرت دموعي المتكاثفة خلف أسوار عيني المرهقة رغما عني!
تقدم زوجي نحوي بخفة وقد سمع دعائي ، رفع كفيّ وقبلها ثم قال آمين لنا يا حبيبتي وجلس بجانبي ، ومسح دموعي فقال :
إياك أن تظني لو كانت بنت هذه المرة سأنزعج أبدًا!
كوني على يقين ، إن ما ادعوا الله به ليس حبًا بالذكور!
ولا حتى في سبيل إرضاء أهلي أو الناس أو المجتمع المتخلف لا طبعًا، فليحترق العالم!
أنا فقد ادعوه أن يرزقنا ولو ولدًا واحدًا صالحًا، يكون رجلًا وعونًا وسندًا لأخواته البنات من بعدي ولكِ ،
إن أصابني مكروه ، أو مالت الدنيا عليّ يومًا!
إقرأ أيضا: قصة زوجتي المديرة
تأكدي أن الرجل الحقيقي لا يتذمر منكن أبدًا ،
ولا من خلفة الإناث مهما تعددت ، بل الذكور فقط من يفعلون ذلك ، وتسودَّ وجوههم عندما يبشرون بالأنثى!
فغيرنا ممن أصابهم العقم ، يرجون الله أن يرزقهم بذرية ولو حتى برائحة بنت!
وبعد أيام حان موعد زيارتي للطبيبة النسائية ؛ للإطمئنان على صحة الجنين ، وقد اتممت الأربعة أشهر .
تجاهلت الموعد ، وحاولت عدم تذكيره به وخرج لعمله كعادته!
لكن زوجي كان يحفظ ذلك الموعد كغيره من المواعيد، تمامًا ،كما كان يفعل بكل مراجعات حملي السابقة بالاناث الأربعة ،
وبكل شهر وبالساعة يحفظ مواعيد مراجعاتي كلها ،رولا يتخلف عن أي موعد يخص حملي ،حتى بعد معرفته لجنس الجنين!
بل يطلب إجازة من عمله ، ليكون بجانبي ويأخذني هو بنفسه طيلة فترة الحمل التسعة أشهر وبكل مرة!
وابتسامته تعلو وجهه ، وهو يراقب نمو الطفلة بداخلي على الايكو الخاص.
فاجأني وقد عاد للبيت بعد خروجه للعمل بساعة ، وقد طلب إجازة يومها ، فطلب مني الاستعداد لنخرج لموعد الطبيبة .
رهابة شديدة اصابت روحي ، رغم كلامه وطمأنته لي يوم أمس ، خوفًا كبيرًا لا أعرف ماهيته يجتاح جسدي المرتجف ،
وهو يمسك بيدي ونحن نتقدم باتجاه العيادة ، وتتسارع نبضات قلبي بشدة .
تلك اللحظات على كرسي الانتظار ، كانت الأصعب على الإطلاق بنظري ، لكن يده لم تفارق يدي وكان يطمأنني بوجوده بجانبي،
وهو يشد على يدي بقوة ، وابتسامة كبيرة تزين ملامحه بلطف تجاهي ، حتى لاحظها كل الموجودين.
وبعد أن حان دوري ، نادت الممرضة على اسمي ، وقفت على عجلة من أمري ، وكأن كهرباء ما أصابت قلبي المضطرب،
وقد افلت يده بسرعة ورحت انظر اليه بتوتر!
إقرأ أيضا: فراق بلا موعد
فوقف وقال : تعالي اليّ يازصغيرتي السادسة ، وضمني لا مباليًا بكل الحاضرين!
حتى بكيت فرفع وجهي ومسح دموعي براحتيه ، وكأنه أيقن إنها ربما بنت خامسة الآن!
فمسك بيدي بكل قوة وتقدم بي لغرفة الطبيبة.
وراح يتأمل الجهاز وابتسامته المعتادة تعلو ملامحه ، حين نطقت الطبيبة : إنها الطفلة الخامسة!
فقال متبسمًا بعفوية : احقًا أيتها الطبيبة؟
وراح يشكر الله ، ويردد الحمدلله ، الحمدلله الذي رزقني إياها من غير حول مني ولا قوة، هذه غرسة جديدة لي بالجنة يالله.
بينما أنا رحت ابكي على طريقته التي اذهلت الطبيبة.
فقالت : بل يجب على زوجتكَ أن تحمد الله على رجل صابر محتسبًا مثلكَ ، غير متذمر من خلفة البنات كالحالات التى تمر علي بعيادتي!
فقلت : الحمدلله الذي رزقني الله بكَ يا زوجي الحنون!
غادرنا العيادة وتوجهنا لمنزل أهله ، لنأخذ البنات فقد وضعهن عند والدته لأننا نسكن بنفس البناء .
وبعد أن ألقى السلام على والدته وقبّل يدها ، ظنتْ ربما إنني احمل بطفل ذكر ، بأن ذلك عليها من ملامحه الضاحكة المستبشرة ،
فقالت له : بشر يا ولدي؟
تقدم نحو البنات ركضن اليه وينادين “بابا” .. وراح يضمهن بحنية لصدره الواحدة تلو الأخرى ،
وحمل الصغيرة منهن بعد أن جثى على ركبتيه أمامهن ، وأكبرهن عمرها ستة سنوات فقط .
فقال بثقة : ابشركِ يازوالدتي إنها غرسة بالجنة جديدة لي.
تستقبلني بحفاوة على باب الجنة.
فسرعان ما تبدلت ملامح وجهها وتملكها الغضب بالحال ، وراحت تسمعني كلمات جارحة،
إقرأ أيضا: الأكواب والقهوة
كالعادة وأنا اتلقى الكلمات بصمت ، وكأنها رصاصات تخترق جدار قلبي وتمزقه ، وراحت تحثه على الزواج بأخرى ،
وكان الصمت حليفي وسيد المشهد لم انطق بأي حرف كان واكتفيت بالاستماع لها فقط!
فقال لأمه : والله لو تزوجت بأربعة نساء يا أمي ، تأكدي أنني المسؤول عن تحديد النسل من بعد الله وانتهى .
صعدنا الى منزلنا بعد ذلك.
وجلس ليصلي العصر والفتيات ثلاث منهن لبسن اثوب صلاتهن الصغيرة ووقفن بجانبه ،
والصغيرة راحت تتسلق على ظهره بالصلاة ،
يا له من منظر نقي مهيب ، وكأنه شيء من ريح الجنة حقًا!
وبعد أن انتهى من صلاته ، حمل الصغيرة بين يديه سمعته يدعوا الله ويقول لهن:
اللهم ارزقني برهن وادخلني بحسنتهن الجنة ، واجعلهن ربي من الصالحات الخاشعات ولكتابك حافظات ،
وارزقني لهن أخوات إناث كما تشاء ، وأشاء بعدد غراس الجنة.
وهن يرددن بكل براءة : آمين يا”بابا”
هطلت دموعي وأنا اتلمس بطني ، وهو يلاعبهن بكل حنية ، ويعد الأوراد على أنامل الصغيرة ، وهي تداعب لحيته السوداء ،
والأخريات يحتضنه من كل جانب .
ظننت أنني سأكون سعيدة اكثر ، لو بشرتني الطبيبة بذكر هذا اليوم!!
لقد كنت مخطئة وايقنت أن السعادة قد رزقني الله اياها ، على هيئة هذا الرجل الضاحك المستبشر ،
الذي كان راضيًا بما رزقنا الله ، ومعه غراس الجنة اللواتي يطفنّ حوله برقتهنّ الأن.
فكان ما يطلبه من الله بدعائه بهذه اللحظات ، قد بث بقلبي طمأنينة تكفيني لسنوات عدة ،
ولو حملت بعد هذا الحمل بعشرة إناث.
“حقا لا نحتاج لكلمات كثيرة تكفينا الطمأنينة”
إقرأ أيضا: كان عمرها عشر سنوات حينما زفت إلى عريسها
وبعد انتهاء التسعة أشهر من ولادتي بالطفلة ، حملت بعد عام واحد من رضاعة الصغيرة ،
وكانت المفاجئة لقد حملت بتوأم من الصبيان يا الله!
لم تختلف ملامح زوجي المستبشر ، حين قالتها الطبيية
وبالرغم من سعادته الكبيرة .
فقال : أنا الأن سعيدًا ليس لأنهم ذكور!
بل لأن الله اعطاني فوق ما ارجوه ، وأكثر مما توقعت فالحمدلله دائمًا وأبدًا.
مرت الأعوام بسرعة ، كبروا أطفالنا ودخلوا الجامعات، والإناث اصبحن يتقاسمن الأدوار بالمطبخ حولي بعد داومهن الجامعي ،
إحداهن تقف أمام الفرن تعد الحلوى ، والأخرى تجهز طاولة السفرة لوضع الغداء ، ومن تدندن بصوتها وتلملم الآواني الفارغة بجانبي .
ومن تقوم بتدليك اكتاف والدها المتعب ، الذي كان يلاعب طفلتنا الجديدة التي تحبوا ،
وأخوها التوأم الجديد وهو يمسك بقدمي يريد الحليب ، وتبعده اخته الخامسة عني محاولة تهدئته ومراضته.
جلسنا على السفرة الجميع ، يتهافتون أبنائي ، بطلب الصحن والملعقة ، ويتبادلون الضحكات ،
ويقوم الشابين التوأم بالتسابق بتوزيع الخبز عليهن ، وهم يتبادلون المزاح مع أخواتهن البنات ،
إحدهما طبيب والآخر يدرس اللغة الانكليزية ، ووجه الشبه بينهما عظيم لا نكاد نميز بينهم ،
فيقول أحدهما ممازحًا لأخته الكبرى: من أعطاك الخبز منا في بداية الطعام؟
فتضحك بصوت عالي وتقول : نسيت أيهم منكم!
وقد كانا حقًا نعم الإخوان لهن بحنيتهما كوالدهما تمامًا ، وكأنهم جزء لا يتجزأ عنه.
ويساعدونهن بكل صغيرة وكبيرة.
تزوجت الفتيات الخمسة ، لم يتبقى سوى التوأم الشباب ، والطفلة التوأم وأخوها .
إقرأ أيضا: ماذا سأفعل إن أدخلني ربي الجنة؟
قال لي أحد أبنائي التوأم مرة : لو أنكِ ترين سعادة أختي وأنا داخل لمنزلها أمام زوجها ،
لأوصل ما طلبته مني يا أمي رغم انشغالي ، وهي تشد زوجها وتقول له : هذا أخي جاء أخي ،
وتمسكني بقميصي راجية أن امكث ببيتها المزيد وتقول لي : لا تتأخر عن زيارتي مرة ثانية أرجوك أخي.
يا أمي شعرت أنني لوهلة أباها ، وشعرت بتقصيري تجاهها وتجاه أخواتي المتزوجات الباقيات.
فقلت لها : أعدك لن اتأخر عليكن الجميع بعد يا قطعة مني.
فقد زرتها بالأمس وجلست معها لوقت كبير ، لكنها ظنت إنني أخي التوأم الذي لم يزرها من أشهر بسبب سفره وأنا لم أخبرها بذلك ، واليوم ظنت إنه عاد فلم ولن أخذلها .
ادهشني تصرفه فضحكت و ضحك والده من كلامه الصادق المغلف بالطمأنينة .
فالحمدلله الذي عوضنا الله بكل ما نرجوه ولو بعد حين
” فلتضحك وجوه عائلتي يا الله بنفس اللحظة دومًا ما حيينا”
كونوا مطمئنين ، فربما العوض من الله يأتي كمعجزة فلا تيأسوا!
{لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ}