فاجعلني فداء لهم
فاجعلني فداء لهم
العالم الأن يحتاج إلى داعية ذي قلب كبير يسع الدنيا بأسرها.
وما حاجة الناس اليوم إلى دعاة ضيّقي الصدور وإن كانوا حافظين لكل المتون.
لعن الظلام يجيده كل أحد ، لكن حمل المصابيح للسائرين ليلا لا يطيقه كل أحد.
علماء الإجتماع يقولون إن الجرائم اليوم زادت من حيث الكم ، ونزلت من حيث العمر ،
وتنوعت حتى وصلت إلى جرائم لم يكن يتخيلها المجتمع.
والحبل على الجرار ، وما يعيشه أبناء هذا الجيل من محفزات الإنحراف أضعاف أضعاف ما مر على جيلنا.
لذلك لا أبالغ إن قلت إن هؤلاء المساكين يحتاجون إلى قلوب فسيحة ،
وصدور وسيعة على الرغم من سوء أحوالهم أكثر من أي شيء آخر.
كان لقمان الحكيم إذا رأى في الطريق رجلين يحلفان بالله خلاف بعضهما ، ذهب ودفع كفارة اليمين عن أحدهما مخافة أن يناله سخط الله.
وحكي عن الإمام أحمد أنه كان يدعو ويقول :
(اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صل الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم.)
وكنت أذهب إلى شيخنا القرضاوي فأجده يجمع الذين عنده كل عدة أيام ويصلي صلاة الغائب على كل من مات ،
في مشارق الأرض ومغاربها من المسلمين في هذه الأيام ، وكأنه يقول :
إذا أفلتوا من دعوتي لهم في الدنيا فلن يفلتوا من دعائي.
ولما شجت رأس الربيع بن خيثيم بحجر لا يعرف صاحبه ، كان الناس منشغلين بالجرح ،
وكان هو منشغلا بالدعاء لصاحب الحجر قائلا : اللهم اغفر له فإنه لم يتعمدني.
أقول هذا الكلام بعد تجارب مرت بي أو حكيت لي في الأيام الماضية مع بعض ساقطي المجتمع ،
المنغمسين في المعاصي لِلُجَجَهِم فألفينا وراء هذا الضياع قلوبا فيها بقية من فطرة ، وصبابة من خوف ، بل ومن حب لله أيضا.
إقرأ أيضا: أصحاب الأخدود
حتى أن بعضهم قال : لو سمعتكم ورأيتكم منذ سنوات ما بلغت من الضياع هذا المبلغ!
إننا بحاجة إلى ثقافة كره المنكر لا كره فاعله ، بل الشفقة على فاعله.
ورحم الله من سُئل يوما عن سر تأثر الناس به ، وإقبالهم العجيب عليه ، فأجاب : «كنت أدعوهم بالنهار وأدعو لهم بالليل».
ثم إننا بحاجة للوصول إلى مرابع هؤلاء الناس وأماكنهم ، والربت على قلوبهم ، وبث أنوار الهداية فيهم.
خطبت خطبة يوما على مقبرة فإذا بشابين يعودان معي ويسرعان الخطى ليلحقا بي يريدان التحدث إلي ،
ولم يسعفني الوقت لأجيب على تساؤلاتهما فأكملنا الحديث في البيت.
وكانا وكأنهما طفلان بريئان يسألان عن أول أمر الإسلام.
ثم غادرا ، وبعد أيام مات أحدهما ، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره ، رحمة الله عليه.
وقد عرفت منهما أنهما كانا من أصحاب فرقة موسيقية للأفراح وما وراء الأفراح من مجون وعربدة!
لا بد من سباق إلى فطر الناس ، وما تبقى فيها من خير.
لا بد من مغالبة ومدافعة إليها ، لكن بحب.
فخلف الأكمة ألف عمر يقول الناس عنهم ما قالوه عن عمر الأول : (لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم عمر.)
ولم يكن عمر يحتاج سوى آيات من صدر طه لتقرأ عليه ، لكن أين القارئون؟!
أفسحوا للعصاة صدوركم ، وانتقوا لهم كلماتكم ، واغشوا أماكنهم ، وأطمعوهم في رحمة ربهم.
فما يمارس عليهم من الإفساد ، لو مورس على أجيال سبقتهم ، ربما لم يكن الإسلام ليصل إلينا.