فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة
يسارع بل ويهرع كثيرون في العالم الإسلامي إلى أداء الفروض الدينية ، مثل الصلاة خمس مرات يوميا ، وصوم شهر رمضان ،
والسفر لأداء العمرة أو الحج ، ولكن يبدو أن من يفعلون ذلك يتصورون أن أداء مثل هذه العبادات هو أكبر ضامن لهم لدخول الجنة.
والحقيقة الغريبة هي أن القرآن لم يعط ضمانا على الإطلاق بدخول الجنة.
فإن القرآن الكريم أعطى أولوية أيضا لأمور أخرى ، غفل عنها الكثيرون.
وليس هناك وضوح في هذا الأمر أكثر من الآية القرآنية الكريمة التالية ،
والتي تتحدث عن “عقبة” أو حائل يقف بين الإنسان وبين دخول الجنة ،
وتصف الآية الرائعة كيفية اجتياز هذا المانع أو اجتياحه أو كما وصفت الآية الكريمة “اقتحامه” فقالت في سورة البلد :
“فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ… وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ… فَكُّ رَقَبَةٍ… أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ… يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ…
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ… ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ… أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (سورة البلد 11 ـ 18)”.
ويا له من وصف ونسج أدبي رائع ، فأول عقبة تعيق الإنسان عن دخول جنات الفردوس الأعلى يكون “اقتحامها” ،
من خلال فك رقبة ( أي تحرير إنسان من العبودية أو الرق).
والأمر بفك الرقاب في القرآن كان واضحا كالشمس.
أيضا في قوله تعال : “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة ـ 60)”.
وهي الآية التي تستخدم في تحديد مصارف الزكاة.
قد يتساءل البعض وكيف لنا اليوم بأن نفك الرقاب وليس هناك عبيد؟
إقرأ أيضا: سورة التغابن – تفسير السعدي
وهنا يأتي التأويل بأن الإنسان في زماننا الحالي قد يكون عبدا للفقر والجوع والظلم والهوان ،
وأن إنقاذ البشر وانتشالهم من ذل العوز والاحتياج والقهر هو أفضل فك لرقابهم من ذل العبودية لمثل هذه الأمور.
والآن ما هي العقبة الثانية؟
وهذا كما ذكرت الآية الكريمة بإطعام في يوم ذي هول شديد (ذي مسغبة) ، يتيما” قريبا” ذا مقربة ،
والقرب قد يكون في قرابة الدم أو قرب المكان أو في مفهوم الإنسانية عامة.
وقد يكون بـ”إطعام مسكينا” في قمة ضعفه وقلة حيلته حتى أنه عجز عن إزالة التراب عن جلده ،
فاكتسى بصورة البؤس والهوان كما وصفه القرآن بأنه أي المسكين “ذا متربة!”
وكما نلحظ هنا أن القرآن ذكر تعبيرات “يتيما” و”مسكينا” ومن قبلهما “رقبة” ،
من دون استخدام أي أدوات تعريف مثل استخدام “ال” قبل الكلمة حتى يعمم المعنى على الجميع أيا كان دينهم أو عقيدتهم ؛
فلم يقل القرآن يطعمون اليتيم المسلم أو المسكين المسلم بل قال بصيغة النكرة :
“أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ… يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ… أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ”
كي يسري المعنى على أي يتيم أو أي مسكين!
وليس هذا الأمر بمستغرب في القرآن والذي قال أيضا :
“وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.
ثم يصف لنا القرآن بعد ذلك كيفية اقتحام العقبة الأخيرة لدخول جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ،
فكان ذلك بالتحلي بالصبر وبأن يكون الإنسان في قلبه رحمة “وتواصوا بالمرحمة!”.
وما أدراكم ما هي الرحمة!
فالرحمة لا تجعل إنسانا يعتدي على آخرين ، والرحمة لا تجعله يظلم زوجته ، والرحمة لا تسمح له أن يأكل حق غيره في الميراث ،
والرحمَة لا تعطيه مجالا أن يتعصب ضد جاره لأنه مختلف عنه في العقيدة ،
بل إن الرحمة تدعو إلى العدل والإنسانية ومد اليد بلا تردد لكل من يحتاجها.
والرحمة كنز مكنون وينبوع يفيض بالغيث لكل من لجأ إليه!
فيا ترى من منا قد اقتحم العقبة؟!