في إحدى المرات رن هاتفي وظهر لي رقمًا لا أعرفه ولا أعرف صاحبه ،
فتحت الخط فإذا بصوت سيدة عجوز تكاد تطير فرحًا حينما أجبتها ، قبل أن أسألها عن ماهيتها بادرتني هي قائلة:
غدير! أخيرًا وجدتك! منذ سنتين أتصل بكِ ولا تجيبي على إتصالاتي ، لقد اشتقت لكِ كثيرًا يا ابنتي.
حين سمعت صوتها الباكي من تأثير الغبطة التي غتبطتها حين أجبت على إتصالها لم أستطع إخبارها بأنني لست غدير ولست المقصودة ،
بل لم أستطع حتى النطق ولو بكلمة واحدة ، لقد كانت تلك العجوز في حالة يُرثى لها.
أكملت قائلة: أنتِ الوحيدة التي بقيتِ لي يا غدير بعدما تخلوا عني أولادي وأودعوني بدار المسنين ،
لقد كنت أتصل بكِ باليوم عشرات المرات منذ سنتين ، اليوم قمت بتغيير الرقم الأخير من رقم هاتفك وقلت ربما قمتِ أنتي بتغييره ،
وأحمد الله على أنكِ أجبتِ إتصالي.
ازدحمت الدموع في عيني وهي تتبادر إلى السقوط رأفة وشفقة بتلك العجوز المسكينة ،
فذكرها بأن أولادها قد أودعوها بدار المسنين آلمني وكسر نفسي كسرًا ،
فأنا أم وأعرف شعور قلبها الآن ، وأعرف كسرة نفسها وضيق الحياة بها ، قاطعتني قائلة: لماذا لا تتحدثين إليّ يا غدير؟
استجمعت بعضًا من قواي بصعوبة بالغة وقلت لها: أنا بخير ، فقط لا أصدق أنني أسمع صوتك.
قالت بتعجب: ما بال صوتك قد تغير؟ أمريضة أنتِ.
قلت: لقد أخذت الإنفلونزا مأخذها مني وهي السبب في تغير صوتي.
إقرأ أيضا: في منتصف الليل سمعت صوت يشبه أنين طفل
ظلت تقص عليّ بطولاتها في دار المسنين مع صديقاتها ، وعن قسوة أولادها ، كانت تبكي حينًا وتضحك حينًا آخر ،
قالت بأنها لا ترجو من أولادها شيئًا غير رؤيتهم واحتضانهم ،
أخذت تحكي لي عن أحفادها وأسمائهم وأعمارهم وأطوالهم وتواريخ ميلادهم والأيام التي ولدوا فيها جميعًا ،
بل والساعة التي ولد فيها كل حفيد لها ، وحكت لي عن أختها الوحيدة التي كانت تحبها كثيرًا وتوفاها الله ،
وقد كانت آخر من ماتت من أقاربها فما عاد لها حبيب ولا قريب إلا أولادها ،
عرفت منها أن غدير تلك هي إبنة أختها وأدركت أنها لا تجيبها على إتصالاتها متعمدة وكأنها على إتفاق مع أولاد خالتها ،
كانت تتصل بي كل يوم فنتسامر ونقص على بعضنا القصص ونضحك وأهوّن عليها وحدتها ولم أخبرها عن حقيقتي حتى لا أسبب لها أي حرج ،
وكنت لا أبادر بالإتصال بها إلا لو اتصلت هي ،
حتى لا أكون سببًا في قلقها أو أن تظن بأن ثمة مكروهًا قد حدث لأي من أولادها أو أحفادها ،
فرغم ما فعلوه بها ولكنها ما زالت تحبهم.
انقطعت عن الإتصال بي ليومين وفي أصيل اليوم الثالث اتصلت بها فأجابت على إتصالي إحدى عاملات دار المسنين ،
وحين سألتها عن صاحبة الهاتف أخبرتني أن الله قد توفاها منذ يومين ،
وأنها قد تركت لي رسالة مفادها “شكرًا لكِ يا ابنتي على سعة صدرك وتحملك لقصصي التافهة التي كنت أقصها عليكِ ،
كبار السن كالأطفال يا ابنتي ، هم بحاجة لم يسمعهم ويهوّن عليهم بؤسهم وشقاءهم ،
ولقد فعلتِ أنتِ ما عجز عن فعله أولادي ، وفعلتِ أيضًا ما عجزت عن فعله إبنة أختي غدير ،
سامحيني لأنني استخدمت تلك الحيلة معك ، لقد كنت بحاجة فقط لمن يسمعني.