قصص منوعة

في حياة من إحدى الحياة التي عشتها مسبقا

في حياة من إحدى الحياة التي عشتها مسبقا ،

كنتُ مُتسوّلاً مُعدَماً ، أقفُ بمُحاذاة إشارةٍ مُروريَّةٍ مُنتظِراً إيّاها إعلان الضّوء الأَحمر ،

لكي تسنَح لي الفُرصةُ بالإنقِضاض على السيّارات المُصطَفّة راجِياً مَن يقودُها إعطائي ما يُمنَحُ مِن خاطِرِهم حتى أتمكَّن مِن تَأمين قوتِ يَومي.

أَذكُرُ جيّداً ذاكَ اليَوم ، أو بالأَحرى تلك الدّقيقَتَين.

أربعةُ أشخاصٍ كانوا قَد أَغلقوا النّوافِذ كي لا أتمكّن مِن التحدُّث إلَيهم ، فأنا أُضاهي العَدَم بالنّسبة لهم.

رجلٌ قامَ بمُناولَتي نِصفَ شَطيرتهِ ، زاعِماً أنّ تلك هي كلّ ما كانَ يَملُك في تلك اللَّحظة.

إمرأةٌ قامَت بإعطائي نِصفَ دينارٍ فردَّدتُ على مسامِعِها العبارات الشَّهيرة المُتعارف علَيها في حضارة التسوّل ،

والتي نتَوارثُها نحن مَعشَر المتسوِّلين بعضَنا عَن بَعضٍ
الله يوفقِك ويخلّيلِك ولادِك.

حتى لَم يعُد لها معنىً لكثرة إستهلاكِها ، نَقولها عَشوائيّاً حتّى دون أَن نُدركَ ذلك.

وبَينَما أَنا جالسٌ على حافَّة الرَّصيف أَتناولُ نِصفَ الشَّطيرة التي غنِمتُها ، وجسَدي يترنَّحُ مُتأَرجِحاً تحت شَمس الصَّيف الحارِقة ،

إذ بصوتٍ يُناديني في آخر صفِّ السَّيّارات ،
《يا وَلد ، يا ولَد ، تعال》

صوتٌ مصاحبٌ ليَدٍ تُلوِّح مِن خارِج النّافذة
وبالطّبع ، فقد جَرَيتُ مُسرِعاً دون تردُّد فها هو الرِّزق يُنادي.

وبالطّبع أَيضاً، لم أَكتَرِث لكلِمة “ولَد” التي نعَتَني بها ، فذاكَ ما كنتُ عليهِ فعلاً ، فضلاً عَن حقيقة أنَّه لا يَعرفُ اسمي ،

وبكلّ الأَحوال ، لا يحِقُّ لي أن أغضبَ ممَّن سيُطعِمُني.

إقتربتُ مِن بابِ سيَّارَتِهِ
رجلٌ في أَواخِر الأَربَعين من عمرهِ ، سمِحُ الوَجه ،

يمتزجُ سَوادُ شعرهِ بقليلٍ مِن الشَّيبِ ، ممّا أضفى على مُحَيّاه وقاراً مِن نَوعٍ خاصّ.

يَرتدي ساعَةً ثَمينةً على ما كنتُ أَعتقِد ، إذ كانَت مُرصّعةً بألماس ،

تفضَّل يا سيّد
قُلتُ باحترام

إقرأ أيضا: سيأتي عليك يوم لن تبحث فيه عن تلك الجميلة

قُل لي يا ولَد ، كَم تملُك بحوزتِكَ الآن؟

أَخرجتُ كُل ما في جَيبي ، وإذا هو المَجموع ثلاثة دنانير.

1 3 4 10 1 3 4 10

هل تَعلَم أنّكَ أَثرى مِنّي؟

وكيف هذا؟ أهي دُعابة مِن نوعٍ ما؟

فأخرجَ مِحفظتَهُ وأراني ما بداخِلِها ، كانت تحتوي على دينارَين .

أرأَيت؟ أَنتَ أَثرى منّي .

لكنّكَ تملك المَزيد من المال في أَماكنٍ أُخرى المنزل أو البنك ،

وكيف لكَ أَن تعرف ذلك؟ قَد لا يكون عندي منزل من الأَساس.

كفاكَ يا سيّد ، أُنظُر لسيّارتكَ الفارهة!

ومَا أَدراكَ أَنّ هذه سيّارَتي؟! قَد أَكون السّائق الشَّخصي لعائلةٍ ما.

إذاً فأنتَ تتلقَّى مُرتَّباً يَوميّاً أَو شَهريّاً على الأَقل!

وهل أنتَ مُتأَكّد مِن أَنّ ما أَجنيهِ أنا أكثر ممّا تَجنيهِ أنتَ؟

لَم أَجِد ما قَد يُسعِفُني مِن الأَفكار لإجابتهِ فذاك الرّجل لَم يترُك لي أيّ مَنفَذٍ للرَّد ، داهِية حقيقيّة !

نظَرَ لي نَظرةً ثاقِبةً مِن رؤوس شَعر رأسي ، وحتى حِذائي البالي ،

وابتسَم ابتِسامةً هادِئة يملأُها حَسرةٌ مِن نوَعٍ ما ،

ثمَّ أشاحَ بصَرهُ عنّي ونَظرَ أمامَهُ ، وأطلقَ زاموراً قويّاً كمَن شعرَ بالضَّجر بشكلٍ مُفاجىء ،

ولم يُعِر أيّ اهتمامٍ لوُقوفي وكأنّه يُريدُ إخباري بأَن أَغرُبَ عَن وجهِه.

قُلتُ له أَخيراً :
هل أنتَ فَيلَسوفٌ يا سيّد؟

رمَقَني بغَرابةٍ ، وكأَنّ سؤالي مسّ مِجسّاً لشُعيرات روحهِ مُجيباً :

ماذا تعرف عن الفَلسَفة؟ يا بُني ،

الفَيلسوف هو مَن يقضي العُمر باحِثاً عن الحَقيقة ، أمّا أنا فأَقول لكَ الحَقيقة .

أنتَ أَثرى منّي ، فقط أَمعِن النّظر جيّداً لما تملِكُه أنتَ غنيٌّ يا أَبلَه فحافِظ على نفسِكَ جيّداً .

تحوّلَ اللّون الأَحمر في الإشارة الضّوئيّة إلى اللَّون الأَخضر مُعلِنَةً صافِرة الإنطلاق للسيّارات .

فأغلقَ الرّجل الغريبُ نافِذَتَهُ ، وانطلقَ بسيّارتِه الفارِهة ، مُخلِّفاً إيّايَ وراءَهُ ،

وهُنا رأَيتُ ما غيَّر حياتي للأَبَد

على صُندوق السيّارة الخَلفي .
وُضِعَ مُلصَقٌ بما مَعناه ، السّائقُ مُقعَدٌ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?