قال لي أي آيات الخوف تهزك وتخيفك أكثر من أختها؟
قلت له : ربما أفاجئك إن قلت لك أنني من الذين ربما تبكيهم آيات الرحمة أكثر من آيات العذاب ،
وتهزهم آيات الرجاء أكثر من آيات الخوف ،
وتأخذ بمجامع قلوبهم آيات العتاب أكثر من غيرها!
عندما أقرأ قول الله في سورة الكهف يوم الجمعة :
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا.
أذوب خجلا ، لأنني أقرؤها بأذن من يقول له حبيبه :
أفهان عليك أَمْرِي إلى درجة أن تطيع عدوي وتعصيني ؟!
أتخيل أهل الجنة وهم يقبلون على بابها زُمرا حين تتلى آية الزمر فرحين مستبشرين ،
وأرتعد إرتعادا شديدا لمجرد التفكير للحظة أنني لست منهم.
وحين أقرأ أو أسمع قوله تعالى : (صراط الذين أنعمت عليهم)
أرى هؤلاء المُنعَم عليهم بعين قلبي الذي يكاد أن ينخلع مخافة ألا أكون منهم!
وحين يتلو القارئ آيات الجنة ومجالس الجنة وأرائكها ،
وأتخيل أصحابي بين هؤلاء الجلوس ثم يخطر ببالي ولو لبرهة أنني لست منهم ،
تهيج عيناي بالدمع حتى لربما يرحمني من بجواري!
عدت إلى سيرة النبي وصحبه ، فوجدت فيهم كذلك من تهزه مثلي آيات ومعاني العطاء والرجاء أكثر من غيرها.
كأنه يقول لربه فيما بينه وبين نفسه عند تلاوة الآية :
وعزتك وجلالك ما ظننت بك إلا خيرا ، وإن كنت لست أهلا لكرمك هذا ،
ثم تهيج نفسه وعينه لهذا الحوار الداخلي الذي لا يعلمه إلا الله.
فهذا نبينا صل الله عليه وسلم يفرح لقوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى ،
لما في الآية من بشارة ، فيتشجع أن يطلب لأمته ما لا يتخيله العقل من الرحمة والمغفرة.
إقرأ أيضا: دخلت المسجد مبكرا في صلاة التراويح
حتى قال الشاعر السوري محمد الخطيب معلقا على ذلك :
قَرَأْنَا فِي الضُّحَى وَلَسَوْفَ يُعْطِي
فَسَرَّ قُلُوبَنَا هذا الْعَطَاءُ
وَحَاشَا يَا رَسُولَ اللهِ تَرْضَى
وَفِينَا مَنْ يُعَذَّبُ أَوْ يُساء.
وهذه أسماء بنت أبي بكر يحكي عنها حفيد لها أنها قرأت يوما في الصلاة سورة الطور فلما إنتهت إلى قوله تعالى :
“فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم” أخذت تكررها وتكررها.
قال : فذهبت إلى السوق في حاجة ثم رجعت وهي ما زالت تكررها!
كأني بها وهي تقرؤها تستشعر أصحابها ، وتعيش معهم لحظتهم ، وكأنها تقول معهم في الجنة ما ورد في الآية!
وليس معنى ذلك أنني لا أهتز لآيات العذاب ، إنما يتحرك قلبي للعتاب أكثر من العذاب.
سمع بعضهم علي بن الحسين يبكي وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول :
أتحرقني بالنار يا غاية المنى
فأين رجائي ثم أين مخافتي؟
وكأنه يكلم ربه بلسان الراجي أن يكون الناجي.
ومن جمال هذا الشعور وأنت تقرأ القرآن أنك تعيش حالة من الأدب ،
وحالة من التعايش مع المعنى ، وحالة من الطمع ، وكلها حالات يحتاج القلب أن يتلبس بها وبغيرها.
صلى النبي -كما روى أبو ذر- بقوله تعالى :
{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فلما أصبح قلت : يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت ، تركع بها ، وتسجد بها ،
قال : إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها ، وهي نائلة -إن شاء الله- لمن مات لا يشرك بالله شيئا.
كأن الآية أطمعته حتى جعلته يستشعر أنه يخاطب الله بها ، فلم يزل يقرأها حتى جعلها مدخلا لمطلبه لأمته.
أعلم أن الناس مع القرآن مشارب وأنواع ، لكنني أحسب أن الدخول على القرآن عند سماعه من هذه المداخل الوجدانية المختلفة تزيد المرء تعايشا معه ، والتصاقا به ، وتفاعلا مع آياته.
فعيشوا القرآن رجاء وخوفا ، تخيلا وحقيقة ، رغبا ورهبا ، فلكل طعمه.
لكن الطعم الذي حكيت لكم عنه لا يضاهى!