قسمتي ونصيبي الجزء الثاني
كانت أول شتيمة أسمعها بحياتي من أبي : هل أنتَ أحمق ، ما نفع دراستك إن كان لا عقل لديك؟!
وقفتُ كتمثالٍ من هول الصدمة ، فقاطَعَتْه أمي قائلة : وما يُدريكَ ، ربما قد قد تكون صادقة.
صرخ أبي بوجهها وهو يقول : الآن قد عرفتُ من أينَ أحضرَ إبنك ذكائه.
تساقطت دموع أمي بلحظة ، مما جعلني أردُّ في وجهه بنبرة حادة : وجّه شتائِمَكَ لي ، فلا علاقة لأمي.
كان سينقَضُّ عليَّ لضربي ، لكن أمي وقفت أمامه وهي ترجوه أن يهدأ والدموع تتساقط من عينيها ،
فقرَّرْتُ أن أنسحب لغرفتي كي لا تتفاقم المشكلة أكثر.
مع أني كنتُ أعتقدُ أني ضعيف الشخصية ، لكن وقوفي بوجه أبي بتلك القوة ،
جعلَ ذلك حافزاً لي بأن أتمسَّكَ بها أكثر ، وأُصِرّ على خطبتها.
استمرَّ أبي على حاله بضعة أيام لا يُحادِثُ أمي ولا يُحادثني وكلما حاول أحد منا أن يتكلم معه ، كان يردُّ غاضبا : دعوني وشأني.
حاولت أمي أن تفتح الموضوع معه مرة أخرى وتحاول إقناعه ، بعد أن أخبرتني أنها ستُحادِثُهُ وطَلَبَتْ مني أن أقف وأسمعها ،
ثم بدَأَتْ حديثها : من الواضح أنَّ إبنكَ معجبٌ بها ، افرِضْ أنَّهُ ذهب من وراءنا وخطبها ، ولا تنسى أنَّ إبنكَ لا ينقصه شيء ،
يستطيع أن يعمل أستاذاً لمادة الرياضيات ، ويجني مبلغاً مالياً يمكن من خلاله أن يصرفَ عليها ،
ولا تنسى أنَّ أباها كما فهمنا بأنَّ أحواله المادية جيدة ، وربما يوافق على زواجهما بدون أن نحضر ،
ويعطيهما منزلاً خاصاً لهما ، كون إبننا به كل المميزات التي يرغبها بزوج إبنته ، وحينها كيف ستصبح سمعتنا أمام الناس؟!
صمت أبي للحظات ، اعتَقَدْتُ بها أنه سيردُّ بالموافقة ، لكنه قال بصوت منخفض ، رفَعَهُ بشكل تدريجي :
أنتِ تُهَدّديني أيتها الحمقاء! وتعلمي إبنك أن يتمرَّدَ عليَّ ويُلَطّخَ سُمعتي بين الناس؟!
حينها قاطَعْتُهُ وأنا أصرخ : أمي لا علاقة لها ، هذا الكلام أنا طلبتُ منها أن تقوله ، لأنني سأفعله ،
وإن حاولتَ أن تقف بطريقي سأترك المنزل ولن تستطيع إيجادي البتة.
إقرأ أيضا: أحيانا تشتعل المشاكل بين الأزواج بسبب الحموات
انقَضَّ أبي عليَّ بلحظة واستطاعَ صفعي ، فانهالت دموع أمي وكأنها هي من تَلَقَّتها ،
مما جعلني أنسحبُ مرة أخرى دون أن أنطق بكلمة ، لأنَّ تلك أول صفعة تلَّقيتها في حياتي.
توقَّعتُ أنها ستكون السبب بهدوء أبي وسماعي وكان توقُّعي صائبا ،
فعندما حان المساء طلبتُ من أمي أن تصعَدَ معي لغرفة أبي كي يكون الكلام أمامها ، وما إن دخلنا حتى قال أبي غاضبا :
إن كنتما ستتحدثان بنفس الموضوع ، اخرجا.
أبي ، منذُ متى ونحن لا نتناقش ؟ دعنا نتحاور في الأمر فإما أن تقنعني أو أقنعك.
صَمَتَ للحظة ثم أشار لنا بالجلوس.
أبي ، أعرف أنك تحب الزواج على الطريقة التقليدية ، وهو بالفعل سيكون كذلك ، فأمي ستذهب لخطبتها وكأني لم أتحدث معها ،
لماذا تريدُ أن تجعلني أندم لأني صارحتك؟!
فقد كان باستطاعتي أن أقول لك أني أُعْجِبْتُ بها ، وأريد خطبتها ، لكنك علَّمتَني على الصدق ،
ولديكَ كل الحرية بأن تسأل عن سمعتها وسمعة أهلها ، ولا تنسى أنَّ لكَ أصدقاء وأقارب في المدينة التي أتت منها ،
وبدوري طبعاً إن رأيتُ منها سوءاً فسوف أفسخُ الخطوبة.
عاوَدَ أبي الصمت للحظات ، ثم قال لأمي : بما أنكِ توافقيه الرأي ، اذهبي لرؤيتها وكأنَّها لم تتحدث معه ،
ولا تُخطِئي بكلمة أمامَ أهلها توحي أننا نعرف بالأمر ، كي لا نتسبَّبَ لها بمشكلة إن تمَّ النصيب أو لم يتم.
ثم قالَ لي : أَخْبرها أن تسأل أهلها عن الوقت الذي يُناسبهم كي تأتي أمك لرؤيتها.
عانَقْتُ أبي بحرارة ، ثم قلت له : أدامك الله فوق رؤوسنا.
زغرَدَتْ أمي من شدة الفرح ، فعانقتها وقبَّلتُ جبينها ويديها.
فقال أبي : أبيكَ تُعانقه فقط ، أما أمك عناق وقبلات.
ثم ضحكنا ، وقبَّلْته كما قبَّلْتُ أمي ، وعاودْتُ تقبيل أمي مرة أخرى ، فضحكت أمي ثم قالت :
اخرج ودعنا ننام قبل أن يطلب منك أبيك تقبيله مرة أخرى.
إقرأ أيضا: هل تصدق أن المتعايش معك يوميا هو الشخص الذي تعرفه؟
حلَّقْتُ لغرفتي فرحاً ، وأنا أتَلَهَّفُ لقدوم صباح الغد كي أخبرها وجهاً لوجه وأرى كيف تبدو ملامحها وهي سعيدة.
كان صباح اليوم التالي متميّزاً ، كوني بدأتُ أسير أول خطواتي نحو تغيير حياتي السابقة المملة الخالية من مشاعر الحب.
عندما رأيتها هرولتُ إليها قائلا : أريدُ أن أراكِ بعدَ انتهاء المحاضرة في المقهى لأمر ضروري.
نظرَتْ لي بعينين خائفتين : هل رفضَ والداك؟
مثَّلْتُ الحزنَ عليها وخفضْتُ ناظريَّ أرضا : عندما نلتقي سأخبركِ.
ما إن انتهت المحاضرة ، حتى هرولت قبلي وجلسَتْ تنتظرني ، وأنا أمشي كسلحفاة مبتهجة ،
دخلتُ المقهى فرأيتُ عيناها تبحثان عني ، مما جعلني لا أستطيع أن أستمرَّ بالتمثيل أكثر ، فجلستُ وقلتُ على الفور :
وافقَ والداي ، وما عليكِ سوى أن تسألي والداكِ عن اليوم المناسب لهما ، كي تأتي أمي للتعرّف عليكم.
صفَّقَتْ وصرخَتْ فرحاً ، فاتَّجَهَت كل العيون نحونا بتعجّب ، ولسوء حظي كان زميلي الملّقب بالإذاعة جالساً خلفي وسمع كلامي ،
فقال بصوتٍ أسمَعَ كل الجالسين : محبوب الفتيات سيتزوج.
مع تصفيق الجميع والتصفير والتهاني ، ذُبنا أنا وهي من الخجل.
اتَّصَلَت بي مساءاً وأخبَرَتْني ، أنَّهم بانتظار أمي بعد يومان ، اعتَقَدْتُ أنها في هذان اليومان لن تفارقني ،
لكنها ابتَعَدَت عني وكأنَّ لا شيءَ سيحدث بيننا.
عادت أمي من زيارتهم والسعادة تغمرها ، فقد أُعْجِبَتْ بجمالها وأدبها ورقيّ عائلتها فقالت لأبي :
كما طلبتَ مني ، فقد حدَّدْتُ موعداً بعد ثلاثة أيام ، لنذهبَ لخطبتها رسميا.
لم أَتَحَمَّل مرور يوم آخر وكأنها غريبة عني مما جعلني أذهب إليها وأقول :
ألا تعتقدي أنه يجب علينا أن نلتقي ونتحدث كل يوم لنتعرَّف على طباع كلينا.
ارتَبَكَتْ وهي تفرك كفَّيها ببعضهما ، ثم تلعثَمَت وهي تقول :
بعدَ أن تتمَّ الخطوبة ، سنلتقي ببيت أهلي ، وبالاستراحات فقط ، فلا أستطيع أن أتأخرَ عن المنزل إطلاقا ،
ولا أريد أن أكون السبب بتراجع تحصيلك العلمي.
إقرأ أيضا: قسمتي ونصيبي الجزء الثالث
انْفَرَجَت أساريري كونها تهتم لأمري ، ما عدا أدبها وخجلها الذي بدا واضحاً من طريقة كلامها.
باليوم الذي كنا سنذهب لتحديد موعد الخطوبة ، أتى أبي بالخبر اليقين ، بأنَّ سمعة عائلتها نقية لا تشوبها شائبة ،
وبعد أن رحبّوا بنا أشدَّ ترحيب ووافقوا على طلبنا تمَّ تحديد حفلة الخطوبة بعد أسبوعين.
أقمنا الإحتفال بصالة أعراس ملكية ، وكأنه يوم زفافنا ، دعونا كل أقاربنا وهم بالمقابل دعوا أقاربهم ،
ولم أنسى كل أصدقائي ومعظم زملاء دفعتي ، لكنها لم تدعو أي زميلة لها ،
وحتَّى أنها لم تبتسم بوقتٍ كان به الغرباء يبتهجون لفرحنا ، وعلى الرغم من أنّي كنتُ أُحَلّق فرحاً ،
لكن كونها كادت أن توشك على البكاء ، شعرتُ بالأسى والحزن لحالها ، لكني قلت في قرارة نفسي :
أعتَقدُ أنَّ الأمور كونها سارت بسرعة قصوى ، فهي تشعر بالحزن لذلك ، وتخاف ألا نتَّفق ولا تحبني ،
لكن بعد مدة ستكتشف بحسن معاملتي أنها مخطئة ، لدرجة أنها هي التي ستطلب تحديد موعد الزفاف.
لكن طيبة قلبي ونيَّتي الصافية كانتا سبباً في دماري النفسي لاحقاً.
يتبع ..