قصة بائعة اللبن الجزء الأول
قصة بائعة اللبن الجزء الأول
قصة كفاح فتاة ظلمها القدر
تقول صاحبة القصة : لم أكن على قدر عال من الجمال ، كنت فتاة عادية جدا أو ربّما أقلّ من ذلك ،
ولعلّك لا تفهم أن الجمال هو مشكلة كلّ أنثى ، والحلم الوهمي الذي تسعى للوصول إليه.
كانت عيناني سوداوان ، وشعري مجعّد ولي بشرة مائلة للسمرة ، إسمي علياء ،
لكنني في الحقيقة ليس لي من العلوّ والرفعة إلا التسمية فكما يقول الناس لا مال ولا جمال ولا حسب.
أبي رجل بسيط يعمل سائق على إحدى عربات الأجرة التي لم يكن يملكها ،
لكنه كان يقتسم العائد المادي مع صاحب العربة في نهاية كل يوم ، وهو رجل طيب.
وأمي إمرأة ريفية مكافحة وشريفة تقف مع زوجها جنباً إلى جنب ، تشتري اللبن والبيض من نساء القرية كل مساء ،
وفي الصباح الباكر تذهب إلى المدينة كي تبيعه في الأسواق ، منهم من يمنحها مبلغاً زائداً عن حقها ،
ومنهم قليل الذوق الذي يقطع أنفاسها في المساومة ولو كان ذلك بضعة ملاليم غير مقدّرين لما تعانيه هذه المسكينة من شظف العيش وتدني حالتها.
كنت أحمل معها حاجياتها كل صباح لأوصلها إلى مكانها المعتاد بالسوق ، ثم أتجه إلى جامعتي بثيابي البسيطة ،
وهيئتي القروية ، وكنت مطمئنة بخصوص مسألة الزواج فـ “عبد الفتاح ” إبن الجيران يظهر لي الحب والمودة ،
ولطالما حدّث أمي بأنه ينوي أن يتقدم لخطبتي بمجرد أن يجمع مبلغاً معقولًا من المال يمكنه من الزواج بي.
ورغم أنه كان عاملا في محل بقالة فلم أمانع في الزواج ، بالنسبة لي الحب كل شيء ،
وأقول لكم الحق فأنا لم أعد أحلم بشخص له مأهّل جامعي ووظيفة مرموقة ،
فمن يقبل بفتاة في حالتي لا تملك شيئا من حطام الدنيا.
أحد الأيام وبدون سابق إنذار تعرض أبي لحادث فظيع كانت ضحيته روحه الطاهرة ،
وبدون مقدمات تركنا أبي دون وداع أو استعداد للحياة بدونه ،
لم تحتمل أمي الصدمة وأصيبت بالشلل التام ، وفجأة وجدت نفسي أمام ثقل المسؤولية ،
قررت أن لا أترك الجامعة رغم المشقة ، والتمسك بحلم التخرج.
إقرأ أيضا: أراد صياد أن يتقرب من الملك
بين عشية وضحاها أصبحت العائل الوحيد ، لأمي المريضة ولأخي الصغير ، وكل صباح أجمع البيض والجبن واللبن ،
وأنزل به إلى السوق وأحاول جاهدة بيعه بسرعة ثم الذهاب سريعاً للجامعة لألحق المحاضرة.
وكل الحق لقيت كلّ المساعدة من الجيران الذين إهتمّوا بأمّي في غيابي ، فلقد كانت إمرأة تحبّ الخير ، ولم ينسوا معروفها معهم.
مرّ الوقت ، ولاحظت أنّ خطيبي عبد الفتّاح صار يتهرّب منّي ، حتى جاء اليوم الذي مرّ فيه بالسّوق فرآني أفترش الأرض ،
وأمامي سلّة بها زجاجات اللبن والجبن والبيض ، ومعي كتاب أقرأ فيه ، وكلّ مرّة يأتي زبون فأتوقّف ،
وكان بصري يجول بين السّطور دون تركيز ، وفجأة وجدته واقفا أمامي ، وأعصابه مشدودة.
وأخيراً استجمع شجاعته ، وقال: أنا آسف ، أريد منك نسيان موضوع الزّواج ، فلا أعتقد أنّك ستنجحين ، ومستقبلك هو بائعة لبن!
أجبته : وما الذي يعيب في أنّي أكسب رزقي بعرق جبيني؟ لم يردّ ، ونظر إلي باحتقار ، ثم إنصرف.
قلبت زجاجات الحليب التي أمامي ، ولعنت حظّي ، فلم يمض شهر على رحيل أبي ،
حتى قرّر ذلك اللئيم أيضا الإبتعاد عنّي ، ليزيد في أوجاعي.
إكتشفت أنّه لم يحبّني قط ، وكلّ ما يعنيه شهادتي ، والمركز الذي سأتحصّل عليه بعد التّخرج ، الذي بقيت عليه سنة ،
تبّا هل نسي أنّه عامل بقالة؟ وشرعت في البكاء كما لم أبك في حياتي ،
وفكّرت أن أقتل نفسى لأرتاح ، لكنّي إستغفرت الله ، وكففت الدّموع التي بللت وجهي.
بعد هذه الحادثة بأسبوع تم طردي من المحاضرة ، الأستاذ لم يتحمّل قدومي متأخرة كل يوم ووصفني بعدم الجدّية ،
طبعا لم أشأ إخباره أنّ الفقر هو السّبب.
خرجت من المحاضرة باكية ، وقرّرت أن أترك الجامعة بلا عودة ، فعبد الفتاح له الحقّ فقدري أن أكون بائعة لبن !
إقرأ أيضا: فأنا بصدق أصلي
وفي اليوم التالي كنت جالسة في السّوق وأنا مشغولة برصف الزّجاجات والجبن ، فجأة وقف قدّامي رجل وطلب مني سلّة من الجبن البلدي ،
ولمّا رفعت رأسي وجدت ذلك الأستاذ البغيض الذي طردني يقف أمام وجهي ، ولما رآني صاح بدهشة :
هي أنت تلك الطالبة التي تتأخر عن الّدرس؟
حاولت إخفاء رأسي بوشاحي ، فقد كان موقفا محرجا ، لكنّه قال : ليس في العمل ما يخجل ، وأنا آسف جدّا عن ما حصل ،
أرجو أن تقبلي إعتذاري ، لا بأس في التأخر قليلا ، وسأعطيك نسخة من أوراقي ، وراجعيها لمّا تعودين إلى المنزل.
ثم أخرج من محفظته ورقة مالية من فئة كبيرة ، ولما هممت بارجاع الباقي ، وجدته قد إنصرف ومن بعيد وقف ثم رفع لي يده.
بقيت مدهوشة لبعض الوقت ، وأحسست بأنّ الثّقة ترجع إلى نفسي ، ثم وقفت وصرت أصيح على البضاعة ،
وأمدح فيها ، وبدأ الناس يقتربون ، ويشترون مني ، ولم يمض وقت طويل حتى بعت كل شيء وبثمن جيد.
ثم ذهبت إلى محلّ لبيع الملابس المستعملة ، واشتريت فستانا كأنه جديد وحذاءا ، وعدت إلى البيت ، والدّنيا لا تسعني من الفرح.
في الغد قرّرت العودة إلى الجامعة ، ولم يغب عن بالي إبتسامة ذلك الأستاذ لمّا ودعني ،
وفي الصّباح الباكر ذهبت إلى السّوق وكنت متحمسة فبعت بضاعتي بسرعة وتركت زجاجة لبن وقطعة جبن كبيرة.
ولمّا وصلت للجامعة مشيت للحمّام ووضعت ملابسي الجديدة ، ومكياج خفيف ، ثم دخلت قاعة الدّرس فرمقني الأستاذ باستغراب ،
ويظهر أنه لم يتوقّع أن يراني بهذه الشّياكة ، وبعد نهاية الدّرس حزمت أمري ، وذهبت إليه ، ثم قدّمت له كيس اللبن والجبن الذي يحبه ،
وقلت له : أنا أعرف أنك تحب الطعام البلدي ، وكل يوم سأحسب حسابك!
إبتسم ، ثم سألني ما رأيك أن أدعوك لفنجان شاي في الكافيه الذي أمام الجامعة.
إقرأ أيضا: قصة بائعة اللبن الجزء الثاني
كانت هذه أوّل مرّة أدخل فيها لمكان فخم كهذا ، ثم أخبرني أنّه تزوّج مرّة ، وطلّق ، فهو إبن الرّيف ،
وظلّ يحنّ إلى أصله ، ورغم أنه يكسب جيّدا إلا أنّه لم يتغيّر ، أما إبنة عمّه التي تزوّجها ،
فصارت تحتقر الرّيف والفلاّحين ، وتتبع أحدث صيحات الموضة.
وبمور الأيام إتّسع الخلاف بيننا ، ولم يكن من حل إلا الطلاق ، ولم أتأسّف عن ذلك.
ثمّ أخذ رشفة من الشّاي ، وطلب منّي أن أخبره عن نفسي ، فبدأت أتكلّم ودموعي تنهمر على خدّاي ، فمدّ لي منديلا ،
وقال لي : لا تقلقي سآتي بممرّضة تهتمّ بأمّك ، وسأعالجها على نفقتي.
فسألته : ولماذا تفعل ذلك؟ أجابني : أنت طالبة متفوّقة ، وأريدك أن تركّزي على دراستك ، يكفيك التّعب في السّوق!
ثم أخرج من جيبه مفتاحا ، وقال : هذا مفتاح مكتبي ، ويمكن أن تراجعي فيه دروسك ، وتغيّري ملابسك.
كان الأستاذ عند وعده ، وجاءت الممرّضة لأمي ، وأخصائي في العلاج الطبيعي ، وتحسن حالها ،
ونسيت الصّدمة التي أصابتها لموت أبي.
وتطورت علاقتي مع الأستاذ ، وإسمه جلال الشرقاوي ، وذات يوم أخبرني بأنه معجب بكفاءتي ، وقدرتي على العمل وأدخلني معه إلى الحزب الذي كان عضوا فيه ،
لكنّي رغم كلّ ذلك لم أتوقّف عن عملي في السّوق.
مرّت السنة بسرعة وحان موعد الإمتحان ، وكنت مصرّة لأنجح ، وأصير محامية ، ولم يقصّر جلال في إسداء نصائحه ،
ويوم الإعلان عن النتائج جاءني ، وعلى شفتيه إبتسامة عريضة وقال : مبروك.
لمّا سمعت أمي بنجاحي ، فرحت بشكل لا يوصف ، وفجأة حدث شيء غريب ، فلقد حرّكت أمي ساقها اليمنى ،
أمّا أنا فبدأت أفرك عيني وأنا لست مصدّقة لما يحدث أمامي.
يتبع ..