قصص منوعة

قصة تحمل في طياتها عبرة الجزء الثاني

قصة تحمل في طياتها عبرة الجزء الثاني

عادت ابنتهما من المدرسة ، بابتسامة عريضة كالمعتاد ، وعندما دخلت وجدت أمها بانتظارها على غير العادة ،

وما إن جَلَسَتْ حتى قالت لها : ابنتي العزيزة ، لقد طبخْتُ لكِ أكثرَ الأصناف التي تُحبيها.

نظرت لها والدهشة تعلو وجهها ، ثم قالت مازحة : هل هذا آخر يوم لي في الحياة؟!

لا تقولي هذا عزيزتي ، أنتِ ضوء عيناي أنا وأبيك ، لكن وكما تعلمين أنَّ عمل القصر لا ينتهي.

أمزح أمي.

غسلت يديها وبدأت إلتهام الطعام ، وعندما شبعت حضَّرت لها أمها كأس شاي ،

فانقبَض قلبها خشيةَ أن تكون أمها تحاول أن تخبرها بشيء سيء يخص صحتها أو صحة أبيها ،

كونَ ذلك الاهتمام لم يحصل قَط.

ما إنْ ارتَشَفَتْ أول رشفة حتى قالت لها : ابنتي ، وكما تعلمين أنا وأبيكِ قد أمضينا شبابنا خَدَماً في هذا القصر ،

ونخشى أن تكون نهايتكِ مثلنا ، وقبل أن تقولي أنَّ دراستك ستنجيكِ ، أريد أن أقول لكِ ، إنَّ العلم لا يُشبع البطون.

فقاطعتها ابنتها : اختصري أمي ، لماذا كل تلك المقدمات؟!

نحن نريد تأمين مستقبلك ومستقبلنا بآن واحد ، ونريد تزويجك من السيد الغني.

ردت بدهشة عارمة : الإبن يكرهني ، كيف سيقبل أنْ يتزوجني؟!

ليس الإبن ، بل الأب.

انهالت دموعها بلحظة ، ودخلت في نوبة بكاء هستيرية ، وهي تردد : هل جُننتي؟! كيف سأتزوج مَن اعتبرته أبي منذ طفولتي؟

ردَّت الأم محتدة : لا أب لكِ سوى أبيكِ ، وأي رجل آخر يجوز لكِ الزواج به.

لست موافقة.

إقرأ أيضا: أربع قصص قصيرة لنتعلم منها وتكون لنا عبرة في حياتنا

أنا لا آخذ رأيك ، بل أُعْلِمُكِ أنكِ ستتزوجين رجلاً غنياً وستعيشين بقية حياتك كالملكات ،

لن تضطري لا لعمل ولا لدراسة ، لن تجدي رجلاً مثيلاً له بحبه ورعايته واهتمامه وإخلاصه لكِ ،

1 3 4 10 1 3 4 10

وهذا آخر يوم دراسة لكِ والخميس القادم هو زواجك ، وفي حال رفضك أمام أبيكِ أو السيد الغني ، سينهال أبيكِ عليك بالضرب ،

وسَيُزوّجك لأول عامل نظافة يصادفه عند حاوية المهملات ، ولا تحلمين بالدراسة البتة.

أيقَنَتْ آنذاك أنَّ هذا آخر يوم لها في الحياة ، فقد قرَّر والديها دفنها وهي على قيد الحياة ، وجَعْلِها في عِداد الموتى ،

فاعتَكَفَت بغرفتها طوال اليوم بدون أن ترى وجهيهما ، وعند عودة الأب مساءاً قال لزوجته :

ها ، أبشريني ماذا حصل؟!

لا عليك ، لقد شرحتُ لها كل شيء وسأنزلُ غداً إلى السوق معها ، كي أشتري لها كل ما يلزمها.

ابتسمَ بسعادة غامرة ، وقبَّل جبين زوجته.

كانت ابنتهما تسترق السمع عليهما ، وتبكي بصمت حارق ، وكم تمنَّت لو كانت تستطيع أن تنهي حياتها في تلك الليلة ،

لكن خوفها ورقّتها كانا عائقاً أمامها ، ومنذ ذلك اليوم التَزمت الصمت وكأنها أصبحت بكماء فجأة.

نزلت برفقة أمها في اليوم التالي ، واشترت لها أغلى الملابس التي لا تستطيع أنثى شراءها إلا تلك التي تلعب بالنقود.

انتهت من تجهيزها بشكل كلي في الموعد المحدد للزفاف ، ولأنَّ زوجته لم يمضي شهران على وفاتها ،

قرَّر ألا يقيم حفل زفاف ، ولا يقم بدعوة أحد ، سوى أقرب المقربين ، والدعوة تكون على العشاء فقط.

وفي العشاء ، لم يسلَمْ الغني من تهامس أقرب الناس إليه ، ولم يسلم الفقيران من نظرات الإحتقار ،

وكلُّ العيون تنظر بشفقة لتلك الطفلة البريئة.

إقرأ أيضا: عطسة خليفة أنصفت مظلوم

دخلت الطفلة لغرفة تعذيبها ، وهي تمسك يد سجّانها والإبتسامة قد أخذَتْ عرض وجهه ،

كانَ الرعب يستحوذُ على روحها ، وقلبها كاد أن يخترقَ ضلوعها من شدة ضرباته ، غير أنَّ أمها لم تقل لها شيئاً سوى :

نفذّي كل ما يقوله لكِ زوجك بالحرف الواحد.

كانت تلك الليلةَ ، ليلةَ وفاتها ، فقد نظرَتْ إليهِ نظراتِ توسّل ألاّ يقترب منها ،

لكنه لم يكن يرى سوى أنها نعمة أوجب الله عليه أنْ يتَنَعَّمَ بها ؛ فأصبح يلتهمها بعيونه وهو يقول لها : كأنَّكِ لعبة.

بعدَ أنْ أنْهَكَ نفسه وحلَّ عليه التعب غطَّ في نوم عميق ، بدون أن يكترث لوجودها ، وهي تبكي بصمت حارق.

في صباح اليوم التالي ، دقَّت أمها الباب كي ينزلا لتناول الفطور ،

وعندما استيقظا طلب من زوجته أن ترتدي أجمل فساتينها كي تزيده شعوراً بالبهجة ،

وما إن نزلا حتى رأَيا والديها جالسان على مائدة الطعام لأول مرة في حياتهما ، فقال أبيها :

أردنا أن يكون فطوركما مميزاً هذا اليوم برفقتنا.

رد الغني مبتسماً : خيرَ ما فعلتما.

في ذلك اليوم لم يستيقظ ابنه للذهاب إلى العمل باكراً كالمعتاد ، مما جعَلَهُ يذهبُ إلى العمل كي يرى ما فاته كل تلك الأيام ،

فقد شَحَنَتْهُ ليلةَ الأمسِ بطاقة وسعادة لا مثيل لها.

ما إن تناولَتْ العروسُ طعامها ، حتى صعدت إلى غرفتها وحبست نفسها طوال النهار ، وعلى الرَّغمِ من محاولات أمها أن تدخل غرفتها ،

لكنها لم تسمح لها بذلك ، فقد أغلقت الباب ، وأخبَرَتها أنها تريدُ الجلوس وحدها.

عندما حانَ موعد الغداء ، دقَّت أمها الباب وقالت لها : ارتدي ثياباً تليق بمكانتكِ ، فابنُ زوجكِ قد استيقظَ لتناول الغداء.

إقرأ أيضا: الأصدقاء الثلاثة

وما إن سَمِعَت تلك الجملة حتى انهمرت دموعها وقالت في قرارة نفسها : بل استيقظَ حبيبي لتناول الغداء.

ولأنَّ ابن زوجها كانَ جالساً على مائدة الطعام ، لم يرغب والداها بالجلوس معهما ، كي لا يتسبّبا بمشاكل لهما ولها.

نزلَتْ إلى المائدة وعيناها ملتصقتان أرضاً ، وابن زوجها لم يُزِحْ ناظريه عنها.

جلسَت بدون أن تقول كلمة ، وبدون أن تنظرَ لبقية الأطباق ، تناولَت بضع لقيمات من الطبق الذي أمامها ،

ولأنه كان عبارة عن سلطة خضراوات ، قال لها : أنت عروس ، ويجب أن تُدَلّلي نفسكِ ، وتأكلين طعاماً مغذياً.

ثم وضع أمامها شريحة اللحم بالخضار مع بضعة ملاعق أرز ، فنظرت إليه والدهشة تعلو وجهها ،

والدموع تغمر عينيها ، وعندما خانَتها دمعة وسقطت عنوة عنها ، نَظَرَ لها باستغراب ، وقال في قرارة نفسه :

كان يجب أن تطير من الفرح في هذا اليوم بعد أن دفَنَتْ الفقر طيلة حياتها ،

لكن من الواضح أنَّ النكد يسير في عروق النساء ممزوجاً بدمائهن.

تناولا الطعام بصمت ، ثم صعد كل منهما إلى غرفته.

دخل يرتدي ملابسه ، استعداداً للحاق بأبيه إلى العمل ، ثم قال في قرارة نفسه :

إنَّ حالة زوجة أبي المأساوية ، سَتُسَهّلُ عليَّ مهمتي في الإنتقام من أبي.

مضى يومها وهي حبيسة غرفتها ، ووالدها غارقان في عملهما كالمعتاد ، وحين عاد زوجها مساءاً ، قال لها : لم أشبع منك البارحة.

عاد للتّمتع بها ، والسعادة تغمر كيانه ، واستسلم للنوم كالليلة التي سَبَقَتْها.

وفي صباح اليوم التالي جلس ابنه لتناول الفطور ، فَسَعَد الأب أكثر لرؤيته كونه قد كانَ مُسالماً كل الأيام السابقة ،

فلم يتوقع منه كل ذلك اللطف.

ما إن تناولوا بضع لقيمات حتى قال لابنه : أنا على وعدي ، بخصوص ميراثك.

إقرأ أيضا: قصة تحمل في طياتها عبرة الجزء الثالث

قاطعه بتوتر : سنتكلم في العمل ، لا داعي لذلك الحديث على الطعام ، كي لانُزعِجَ عروستنا به.

ابتسم أبيه والسعادة تغمره ثم قال : معك حق.

تناولا الطعام ثم ذهبا إلى العمل ، وما إن دخلا المكتب حتى قال لأبيه :

أنا مستعد لكي أُنَفِّذَ كلامك بخصوص كتابة نصف أملاكك لي ، لكن يا أبي إنَّ زوجتكَ لا تزال صغيرة بالسن ،

ولم تصل إلى السن القانوني بعد ، انتَظِر عامان كحدٍّ أدنى ، ثم ضَع نصف أملاكك المتبقية باسمها ،

وحينها افعل ما يحلو لك ، إن أرَدْتَ جعَلْتَ حقَّ الانتفاعِ لكَ طوال حياتك ،

وإنْ أردتَ سلَّمتَها إدارةَ أملاكها تحت إشرافك كونها صغيرة بالسن وخبرتها معدومة.

ثم صمت لحظات وتابع : أنا أقول هذا الأمر لأجل سعادتك قبل سعادتها ، فهي وبهذا السن لن ترى قيمة لأملاكك.

ساد الصمت بينهما لدقائق ، ثم قال الأب : معك حق يا بني ، سأكلم المحامي أن يُجهّزَ الأوراق كي أنقل لاسمك نصف الشركات والمعامل ،

وسأقومُ بتأجيل نقل النصف الآخر لاسمها عند إتمامها الثامنة عشر.

شعرَ الإبنُ أنه وضع أول خطوة له في طريقِ الإنتقامِ من أبيه ، ورَمْي الخَدَم الثلاث في الشارع.

يتبع ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?