قصص منوعة

قصة هينة الجزء الثاني

قصة هينة الجزء الثاني

بعد مدّة عاد يوسف من سفره فرحا بما حمله من هدايا ومتاع ، وقال لأمّه أنظري ماذا حملت لهينة!

لكن الأم لم تجب ، رأى على وجهها العبوس والحزن ، فقال لها : بالله عليك يا أمّاه ماذا وقع لهينة هل تزوجت من رجل آخر؟

فردت الأم وهي تغالب البكاء : بل أكثر من ذلك فهنية ماتت ، جعل الله محبتك لها صبرا لك ورحمة لها.

ولمّا سمع ذلك من أمّه انقلب الضّياء في وجهه ظلاما ، ولبث مدة في غرفته لا يأكل ولا يشرب ، وسمع أحد الرّعاة بحالته ،

فأتى إليه ، وقال له سأخبرك بشيئا ، لا أعرف إن كان سيخفّف من شقائك أو يزيد فيه ،

لقد كنت أرعى غنمي ، وشاهدت أمّك تحفر قبرا لا أدري ماذا وضعت فيه ، من المأكّد أنها لم تكن هينة ،

فقد كان شيئا صلبا عليه كفن ، ولقد تعجّبت من ذلك فقام يوسف من حينه ، وأخذ فأسا وحفر ،

وعندما رفع الكفن وجد تحته خشبة ، فرجع إلى أمّه وقال لها إن لم تعلميني بالحقيقة قتلت نفسي.

فروت له القصة من أولها إلى آخرها ، فاقسم بأن لا يعود إلى القرية ثانية حتى يرجع بحبيبته هينة ، أو يهلك دونها.

قطع يوسف البراري وعبر الأنهار بحثا عن هينة حتى وصل إلى شجرة عليها بومة تظهر عليها الكآبة ،

فسألها عن حالها فأجابته : لقد مرّت بي صبيّة خطفها الغول ، وكانت تبكي في الطريق وتنشد :

راحت المسكينة هينة لم يعد لها أهل يحبّونها وبيت ولا آنية ودقيق وزيت لن تروها ولن تفرحوا لها ولن تسمعوا لها صوت.

آه وأسفي عليك يا يوسف فألم الفراق لا يوصف.

لمّا سمع يوسف شعر هينة ، وعرف لهفتها عليه بكى وتناثرت دموعه.

أحسّت البومة بالشّفقة عليه ، وقالت : إتبع هذا الطريق ، وستصل إلى جبل العيون السّبعة ،

وفي أحد كهوفه ستجد حبيبتك لكن هذا الجبل يحرسه شيخ من الجنّ ، ويقال أنّه تجاوز المائتي سنة ،

ولن يتركك تدخل إلاّ إذا اهتديت إلى كلمة السّر.

إقرأ أيضا: كان خارجه ذهبا

إسمع يا رجل! لا تفكر كثيرا في الجواب فهو بسيط ، فقط تأمّل ما حولك.

عندما وصل إلى آخر الطريق شاهد جبلا عاليا يلامس الغيوم ، وأمامه صخرتين ملتصقتين ببعضهما ،

1 3 4 10 1 3 4 10

وفجأة ظهر ليوسف شيخ أبيض اللحية ، وسأله ما الذي أتى بك إلى الجبل الذي تسكنه الجان والغيلان؟

حكى يوسف قصته للشيخ ، فقال له : ما باليد حيلة ، الباب لا يفتح إلا بكلمة سرّ ،

لكن بالإمكان مساعدتك على الهرب من الغول ، قال يوسف : هات ما عندك.

قال الشّيخ : ما هو القصر الذي خارجه وداخله أصفر ، وسكانه صفر ، يغلق بقدرة المولى المجيد وقفله يفتح بالحديد؟

إحتار يوسف ، وقال في نفسه : هذا لغز صعب ولا حلّ له ، لكنه تذكر وصية البومة ، ونظر حوله ،

فرأى شحرة تفاح تتدلى منها ثمار حمراء اللون ، فضحك ، وقال للشّيخ :

البطيخة هي صفراء وكذلك بذورها ، وتفتح بسكين من حديد!

وما أن أتمّ كلامه حتى إبتعدت الصّخرتان ، وظهر ممرّ ضّيق بينهما سار في الممرّ وهو يلتفت يمينا وشمالا ،

فقد كان الجبل كبيرا ومليئا بالكهوف وتساءل في أي كهف توجد هينة يا ترى؟ وكيف سيهتدي إليها ؟

واصل طريقه وهو في أشدّ حيرة ، وفجأة رأى من بعيد صبيّة تملأ قلّة ،

فاتّجه إليها ولمّا إقترب منها أخفت وجهها.

سألها هل رأيت بنتا إختطفها الغول منذ أيام؟
قالت : وماذا تريد منها؟ أجابها : أنا خطيبها ، وجئت لإنقاذها!

لمّا سمعت ذلك رفعت خمارها ، وشهق يوسف ، فلقد كانت وصيفة هينة.

قالت له : والله لم أعرفك ، فلقد شحب لونك ، وطالت لحيتك!

ردّ عليها : من الحزن على بعد حبيبتي ، ولو بقيت دونها لفارقت الحياة.

إقرأ أيضا: معا لنلتزم

رافق يوسف الوصيفة إلى كهف كبير ، وطلبت منه الإنتظار ، وبعد قليل جاءت هينة ، وارتمت في حضنه وتعانقا طويلا ،

ثم قالت له : تعال أخفيك ، فلا يمكننا الهرب إلا إذا نام الغول ، ثم أخذت قصعة وغطته بها ، وجلست فوقها.

بعد ساعة جاء الغول وقد إصطاد خنزيرا بريا ، دخل ورماه على الأرض ثم أخذ يشم الهواء وقال لهينة :

الأمر عجيب في داري غريب إني أشمه وهو مني قريب.

قالت هينة : لا يوجد أحد سوى أنا ووصيفتي ، بحث الغول في كل مكان إلا تحت القصعة ،

وقال : أنا متأكد أن هناك أحدا ، ربما خرج الآن.

طبخ الغول الخنزير ، وأخرجت له هينة جرة خمر شربها ، وراح في نوم عميق بعدما أمسك بشعرها الطويل لكي لا تهرب ،

قالت هينة للنمل الذي دخل لإلتقاط فتات الطعام إذا خلّصتم شعري من يد الغول فسأعطيكنّ حفنة من السّكر.

نادى النمل رفاقهم ، وخلّصوا شعر هينة شعرة شعرة ، ثم خلطت البنت الحناء ،

وحنّت لجميع الأشياء التي وجدتها حولها لكي تصمت ولا توقظ الغول لكنها نسيت المهراس.

وعندما خرجت هينة ويوسف ومعهما الوصيفة ، بدأ المهراس يدقّ ، ويقول : إنهض يا غول ، واقرع الطبول ،

إلحق هينة لقد هربت من المدينة.

مدّ الغول يده ، لكنّه لم يجدها بجانبه ، فخرج من الكهف وهو يصيح : الويل لك يا هينة لن أتركك اليوم حيّة.

لمّا وصل يوسف وهينة والوصيفة إلى البوّابة قال لهما الشيخ : لا تلمسوا شيئا في الغابة ، ولا تتدخّلوا فيما لا يعنيكم ،

وإلا وجدكم الغول ، وقبض عليكم.

قالوا : سنفعل ذلك.

أخذوا يمشون في البوادي ، وبعد فترة وجدوا قلادة من اللؤلؤ على الأرض ، فمرّوا بها وتركوها.

ثمّ وجدوا حوض ماء صافي ، فشربت الوصيفة منه ، فجاء طائر كبير وابتلعها ،

لم يتوقّف يوسف وهينة رغم حزنهما الشّديد ، واستمرّا في المشي ترفعهما نجاد وتخفضهما وهاد ،

إلى أن وجدا أرنبا صغيرا مكسور السّاق ، فقال يوسف : لا بد أن أضمّد جرحه وإلا سوف يموت.

إقرأ أيضا: الأخوين وقصر الفضة الجزء الأول

وعندما أخذه في يده ظهر الطائر مرة أخرى ، وانقض عليه وابتلعه مع الوصيفة.

إختفت هينة بين الأشجار حتى إبتعد الطائر ، ثم جرت حتى تعبت وهي لا تدري أين تسير.

وعندما مرّت بالبومة نادتها ، وقالت لها : لا يمكنك أن تهربي من الغول ، فهو يعرف رائحتك ،

وسيتبعك أينما ذهبت ، لكن سأحوّلك إلى زنجيّة ، ولن يعثر عليك ، وأوصيك أن لا تذكري خطيبك يوسف على لسانك مهما إستبد بك الشوق ،

فسيرسل الغول الغربان تتنصّت على البنات العاشقات ، ولو قلت شعرا تشكين فيه همومك لنقلت إليه خبرك ،

وعندئذ يأتي ويخطفك ثم يقتلك معه ، إياك أن تنسي وصيتي وتندمين.

سألتها هينة : هل سأرى يوسف مرة أخرى؟

أجابتها : الله وحده هو من يعلم ذلك ، ليس عندك سوى الصّبر ، أمّا الآن فأغلقي عينيك ،

وعندما فتحتهما هينة وجدت نفسها زنجية ذات لون بني غامق.

إنزعجت البنت ، وقالت : هل سأبقى طول عمري هكذا؟

ردّت البومة : قبلة على شفتيك من الحبيب سترجعك كما كنت!

وعليك بالإتجاه شرقا فمن هذه الناحية جاء يوسف باحثا عنك ، ولمّا أتمت البومة كلامها طارت واختفت عن الأنظار.

بقيت هينة تمشي دون راحة ولا تقدر أن تنسى يوسف ، وكلما همّت أن تنشد شعرا مثلما تعودت أن تفعل تذكرت وصيّة البومة ،

وهذا ما زاد في قلقها ولمّا وصلت لقرية يوسف ، ذهبت لعمّها وقالت له أنها تبحث عن عمل ،

فكلفها برعي الماعز ، وحلب البقر وهو لا يعلم أنها هينة ، وأسكنها في الزّريبة.

تحمّلت المسكينة هذه الحياة القاسية وكلها أمل أن يرجع يوسف.

في أحد الأيام جاء تاجر إلى القرية ، وكان يرتدي ثيابا تشبه ثياب يوسف ويضع عمامة تشبه عمامته ،

وعندما رأته هينة رمت قلة الحليب من يدها ، وجرت نحوه بفرح ، وأنشدت :

إقرأ أيضا: رجل يعمل جزارا يبيع اللحم

عاد يوسف ولا عتاب
فما أحلى وجود الأحباب
بعد طول غياب

إلتفت إليها التّاجر بدهشة ، وقال لها : إسمي نور الدّين ، ولا أعرف من يوسف الذي تتحدّثين عنه ،

أكيد أنّك خلطت بيني ، وبين شخص آخر!

ندمت هينة على حمقها ، وحاسبها عمّها حسابا عسيرا على القلة التي كسرتها ، وقال لها :

سأقتطع ثمنها من أجرك ، لكنّها لم تنصت إليه ، فلقد كانت تتسائل إن سمعت الغربان شعرها ، وعرفت سرّها.

في المساء رأت هينة الطائر يحوم حول الزّريبة ، وتكلم يوسف من بطنه :

يا هينة كيف حالك؟ وماذا تعشيّت؟ قالت : شديدة السّوء ، وتعشّيت النّخالة.

رد عليها : يا ويحك من تلك الحالة ، وكان عمّ هينة مارّا في تلك اللحظة فسمعها ، وفي الغد أعطاها غرفة في داره ،

وتركها تستريح ، وتعشّت كسكسي باللحم.

لمّا حلّ المساء جاء الطائر ، وحام حول الدار ، وتكلم يوسف : يا هينة كيف حالك؟

ردّت عليه الزّنجية: لقد رفق بي عمّك ، وأنا اليوم شبعانة ، أجاب يوسف : لقد استراح قلبي ، ونفسي لك فرحانة ،

أصبح الطائر يحوم كلّ مساء ، ولاحظ عمّ يوسف ذلك ، وأنّ هينة تخاف كلما تراه ، وتجري للاختفاء في غرفتها.

ذهب إلى مشعوذ ، وحكى له القصّة ، فقال له : إنّ الزّنجية هاربة من الغول ، ولقد تحوّل إلى طائر يعرف ما في السّرائر ،

وفي بطنه فتى بالعشق حائر ، من كرام العشائر ، وكأنّي به يعرفك!

عليك الآن أن تنقذه ، وتقتل الغول ، فإنه إذا لم يحصل على الزّنجية سيحرق القرية الدار تلو الأخرى ، حتى تسلموها له ،

وعندئذ سيخرج الفتى من بطنه ، ويقتلهما معا ويأكلهما!

إقرأ أيضا: الأميرة واللؤلؤة الجزء الأول

قال عمّ يوسف وكيف أقتل الغول؟ لا أحد يمكنه ذلك ، فهو بارع في السحر ، ولا يمكن التحايل عليه.

قال المشعوذ إذا أبطلنا سحره ، أمكن القضاء عليه ، سأكتب تعويذة فيها حروف من القرآن ،

وتضعها وسط كدس من اللحم ، ولمّا يبتلعها الغول لن يقدر على التّحليق بكلّ ما أكله ،

وسيحاول إخراج الفتى ليخفّ وزنه ، عندئذ ترمونه بسهام مشتعلة ، فيحترق ريشه ، ويصبح من السّهل قتله ،

فالرّيش هو ما يحميه من طعنات سيوفكم!

سأل عمّ يوسف المشعوذ : هل حقّا سنتخلص من الغول.

مرّت دهور والبدو يحاولون ذلك دون نتيجة ، قال المشعوذ ، كانت تنقصهم الحيلة!

والقوّة لا تنفع مع الغول ، أرجو أن تكون هذه المرة نهايته.

إختار عم يوسف من بقره ثورا سمينا ، فذبحه ، وقطع لحمه ، وجعله كدسا كبيرا ،

ووضع التعويذة في الأعلى وسط قطعة لحم ، وأمضى اليوم وهو يبعد العقبان والكلاب ،حتى جاء الطائر ،

وعندما رأى الكدس ، أعماه الطمع ، ونزل فوقه وبدأ يأكل حتى شبع ، ولمّا حاول أن يطير عجز عن ذلك ،

وبدأ يدور حول نفسه في حيرة ، ولا يفهم ما يحصل له.

إبتعد عن القرية لكي لا يراه أحد ، ثم تقيأ وصيفة هينة ، وبعدها يوسف ، وأحس الطائر بالراحة ،

ثم ربطهما في جذع شجرة وقال : سآتي بهينة وأقتلكم جميعا.

لقد نفذ صبري وهذه البنت أخبث ممّا كنت أتصوّر ، وحان الوقت لأعلمها الأدب ، سأنزع أحشائها وأنظر إليها وهي تموت ببطئ!

حرّك جناحيه لكي يطير ، لكنّه سمع أزيز سهم ينطلق من الغابة ويصيبه ، ونظر إلى النار تشتعل في ريشه ،

ضحك ، وقال : لن يقدر سهم واحد على إحراق ريشي ، والآن سأطير ، وأحرقكم جميعا أيها الأوغاد!

وما كاد يتم كلامه حتى إنطلقت السهام المشتعلة من كل إتجاه ، فقد جاءت كلّ القرية لمساعدة عمّ يوسف.

إقرأ أيضا: مزرعة الطماطم

صرخ الغول : لقد وقعت في الفخ ، لم يعد أحد يخاف منّي في هذه الغابة!

حاول أن يغير شكله إلى خنزير بري لكي يهرب بسرعة ، لكنه لم يقدر.

قال : ويحي لقد زال سحري واليوم ينتهي أمري!

عندما رأى أهل القرية ضعفه ، تشجّعوا ، وهجموا عليه ، ووضعوا فيه سيوفهم وحرابهم حتى مزّقوه ،

وجاءت الكلاب فأكلته ، ونهشت عظمه ، ثم ذهب القوم وفكوا وثاق الوصيفة ويوسف.

عندما رآه عمّه تعجّب ، وقال : لقد إعتقدنا أنك متّ ، وبكت عليك أمك!

أما الآن فاذهب لتستحم فرائحتك أصبحت مثل الغول.

في الصباح قال لعمه أريد الزواج من الزنجية التي عندك ، إنزعج العم وقال منذ متى يتزوج السادة العبيد؟

أجاب يوسف تلك رغبتي ، قال العم وهينة هل نسيتها؟

قال يوسف لا أقدر أن أجيبك الآن فلا أعلم أين هي ولا أعلم سبب تعلق قلبي بهذه الزنجية ، لي شعور عجيب من ناحيتها!

لم يجد العم وأمّ يوسف بدّا من تحقيق رغبته ، وبعد العرس إختلى يوسف بزوجته ،

وفي الصّباح وجد فتاة بيضاء جميلة تمشط شعرها ، وتنظر إلى المرآة ، فدهش ، وقال لها :

ويحك ماذا تفعلين في غرفتي وأين الزنجية؟

إلتفتت له وضحكت ، وقالت بدلال : ألم تعرفني يا يوسف؟

أنا هينة ، وقد حوّلتني صديقتي البومة إلى زنجية لكي أهرب من الغول ، لكنه وجدني ، وأنت تعرف بقية القصة.

جاء عمّ يوسف وأمّه لتهنئتهما ، وهما في حرج شديد ، فيوسف بعد موت والده سيصبح شيخ القبيلة ،

وما حولها من الأعراب ، ولو علم هؤلاء البدو بزواجه من أمة زنجّية سيصغر في عيونهم ، وتقلّ همته بينهم ،

لكن سرعان ما تحوّلت حيرتهم إلى دهشة عندما رأوه مع هينة ، وسمع أبوها وأمها برجوعها وزواجها ،

فجائوا مع كلّ قومهم لرؤيتها وامتلأت الأرض بالضّيوف ، ودقّت الطبول وعم الفرح لزواج يوسف وهينة ،

ومقتل الغول الذي علّقوا رأسه في شجرة.

لكن ما لا تعلمه هينه أنّ ذلك الغول لم يكن الوحيد في الغابة ، وهناك آخرون يستعدون للانتقام منها ،

لقد شاء قدر المسكينة أن لا تعرف الرّاحة مثل غيرها من البنات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?