قلة الوفاء من أقرب الناس
لما تولى الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الحكم في الأندلس ، حدث خلاف مع الفقهاء ،
وكان أحد العلماء المطلوبين لسيف السلطان الإمام الفقيه طالوت بن عبد الجبار تلميذ الإمام مالك ،
وهو من أكابر الفقهاء وقد هرب من بطش ( الحكم )
واستخفى عند جارٍ له يهودي مدة عام كامل
واليهودي في كل يوم يقوم بخدمته ويكرمه أشد الكرم ،
فلما مضى عام طال على الإمام طالوت الإختفاء ، فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه ، وقال له :
قد عزمت غدًا على الخروج وسأذهب إلى الوزير أبي البسام ،
فقد قرأ علي القرآن وعلمته ولي عليه حق التعليم وحق العشرة وله جاهٌ عند ( الحَكم ) فعسى أن يشفع لي عنده فيؤمّنني ويتركني.
فقال اليهودي :
يا مولاي لا تفعل ، إني أخاف عليك من بطش الحَكم بك.
فأبى طالوت إلا الخروج ،
فخرج فى الخفاء ( بالليل ) حتى أتى دار الوزير فاستأذن عليه ،
فأذن الوزير له فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه وسأله أين كان في هذه المدة فقص عليه قصته مع اليهودي.
ثم قال الإمام طالوت للوزير أبي البسام :
إشفع لي عند ( الحَكم ) حتى يؤمنني فوعده الوزير بذلك.
ثم خرج الوزير من فوره إلى الأمير الحكم ووكل بطالوت من يحرسه ، فلما دخل الوزير أبو البسّام على الأمير ( الحَكم )
قال له لقد جئتك بهدية ( جئتك بطالوت رأس المنافقين ، قد ظفرت به!
إقرأ أيضا: أريد قليلا من الماء
فقال الحكم :
( قم فعجّل لنا به )
فلم يلبث أن أدخل الإمام طالوت على الأمير ، وكان الأمير يتوقد ويشتعل غيظا منه فلما رآه جعل يقول :
طالوت ؟
الحمد الله الذي أظفرني بك ، ويحك والله لأقتلنك شر قتله كيف استبحت حرمتي؟
فقال له الإمام طالوت :
ما أجد لي في هذا الوقت مقالا إلا أن أقول لك والله ما أبغضتك إلا لله وحده حين وجدتك إنحرفت عن الحق ،
وما فعلت معك إلا ما أمرني الله به ، فسكن غيظ الحَكم !
ثم قال : يا طالوت والله لقد أحضرتك وما في الدنيا عذاب إلا وقد أعددته لك وقد حيل بيني وبينك ،
فأنا أخبرك أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك ، إذهب قد عفوت عنك.
ثم سأله الحكم يا إمام :
كيف ظفر بك الوزير أبو البسام ؟
فقال : أنا أظفرته بنفسي عن ثقة ، فأنا لي فضل عليه فقد علمته القرآن واستأذنته أن يشفع لي عندك ،
فكان منه ما رأيت
فقال له : فأين كنت قبل أن تذهب إليه ؟
فأخبره طالوت بخبر اليهودي.
فأطرق الأمير رأسه ، ثم نادى على وزيره أبي البسام وقال له :
يا لك من رجل سوء قاتلك الله أيها المشؤوم أكرمه يهودي ، وسترَ عليه لمكانة العلم والدين ،
وخاطرَ بنفسه من أجله. وغدرت به أنت يا صاحب الدين حين قصدك!
أيها المشؤوم ألا أديت له حق تعليمه لك ؟
أخرج عني قبحك الله.
لا أرانا الله في القيامة وجهك هذا إن رأينا لك وجها ، ولا أريد أن أراك بعد اليوم أيها المشؤوم.
ثم طرده من الوزارة وضيق أرزاقه.
ثم مضت سنوات فرأى الناس هذا الوزير في فاقة وذُلّ وكتب ( الحَكم ) لليهودي كتابا بالجزية فيما ملك ،
وزاد في إحسانه ، فلما رأى اليهودي ذلك ، أسلم.
وأما طالوت فلم يزل مبرورا عند الأمير إلى أن توفى ، فحضر ” الحَكم ” جنازته وأثنى عليه بصدقه وإخلاصه وعلمه.
أورد هذه القصة الذهبي في السِّيَر ،
والقاضي عياض في ترتيب المدارك.