قوة الضعف
عندما كنت طبيبا مقيما كان لي صديق أنجب طفلة أصيبت بحالة بسيطة من صفراء حديثي الولادة واستدعى الأمر نقل بعض الدم لها.
كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل عندما كنت أزورها في حضّانة المستشفى بعد نقل الدم ،
وأتبادل المزاح مع أبيها ، عندها ظهر طبيب الأطفال وهو صديق مشترك ، سألني عن فصيلة دمي.
فقلت بلا إكتراث : O موجب ، لماذا تسأل ؟
لم أدر إلا بطبيب الأطفال يجرني من ساعدي جرا نحو بنك الدم ، ثم يقول للفني الذي أرهقه السهر ، ويفتح عينيه بصعوبة :
صحته طيبة كالثيران ، لا تخش شيئا خذ منه ما تريد من دم.
وتم إجراء توافق الدم مع عينة دم يحتفظ بها الفني في الثلاجة ، كان هذا قبل عصر إجراء أبحاث إلتهاب الكبد والإيدز طبعا ،
لهذا كان المريض يتلقى الدم فور التبرع به.
إنغرست إبرة التبرع بالدم الغليظة في وريدي ، آي ، ورأيت الدم الأحمر القاني يتدفق إلى الكيس ، فقط لو استطعت أن أفهم !
عدت مع طبيب الأطفال إلى الحضّانة ، فرأيت طفلة رضيعة لونها كلون الليمون ، وجوارها تذكرة تحمل إسم (شيماء).
ورحت أراقب الممرضة وهي تعلق كيس الدم وتبدأ عملية نقله إلى الجسد الصغير ،
دمي يسري في هذا الجسد الذي لم يقض على الأرض سوى يوم أو إثنين.
الآن صار من حقي أن أفهم ، فقال لي طبيب الأطفال بطريقة روتينية ممله :
حالة فقر دم متقدمة ، أنيميا تكسيرية كدنا نفقدها وكنت أبحث عن أحد له ذات الفصيلة.
الحمدلله أنني وجدت واحدًَا عند الفجر.
إقرأ أيضا: عسكري ﻋﻤﺮﻩ ٢٥ ﺳﻨﺔ إستأذن ﻣﻦ ﺍلضابط ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝ بطلب إجازة
كل هذا جميل ولكن أين أهلها؟
لا نعرف ، لقد تركوها واختفوا فقط أطلقوا عليها إسم شيماء.
كان الشيء الصغير يقرقر وينظر لنا بعينين تائهتين ، وأقسم أنني شعرت بأن صفرتها تزول بالتدريج.
شعرت بأنني فخور وأن يومي لم يضع هباء ، من يبالي بهذا الدم ؟
عندي الكثير منه ، أما هي فيكفيها ربع لتر على الأكثر وهو ما أخذوه فعلا.
في اليوم التالي جاء صديقي ليتفقد إبنته الرضيعة ، زميلة شيماء في الحضانة ، وجد أن شيماء لوثت ثيابها ولم تجد الممرضات كافولة ،
فأخذن من الكوافيل التي إشتراها لابنته.
مع الوقت صار لشيماء نصيب في كل شيء : الكوافيل ، الرضعات ، الثياب ، المال أيضًا ،
لأنه ترك للعاملات مالاً يشترين به ما تحتاج له ، من دواء أو ألبان.
لم يظهر أهلها قط ، لكنها صارت أختًا لابنة صديقي وصار كل شيء يُقسم على الإثنتين.
لا أعرف مصيرها بعد ذلك ، لكني شعرت بقشعريرة لا شك فيها لماذا دخلت أنا الحضانة في ذلك اليوم وذلك الموعد؟
لقد كنت مجرد أداة لتبقي هذه الرضيعة حية.
إنها في حجم صفحة هذه المجلة ، لكن الله سخرنا لها أنا وصديقي والممرضات وطبيب الأطفال.
تريد دما فلا تفتش عنه مذعورة في بنوك دم وزارة الصحة ، إنما يأتيها وهي مستريحة هانئة ،
تريد كوافيل فلا تبتاعها بل تأتيها ببساطة حيث هي.
هناك قوة أعظم وأكبر ترعى هذه الصغيرة ، وإلا لكانت ملقاة تلتهمها الكلاب في أقرب كومة قمامة.
قوة الضعف ، هذا هو ما أكرره.
ليست هذه بالطبع دعوة لأن نكون ضعفاء.. ، لكنها دعوة لأن نتذكر القوة الكامنة في الحب والعطف.
الحنان يسري في الإتجاهين ، وكما نمنح الحنان للآخرين فإننا نتلقاه في اللحظة ذاتها ،
كالمعادلات ذات الإتجاهين التي كنا ندرسها في حصة الكيمياء.
هناك قوة ربانية عليا تحمي الضعفاء وترعاهم ، بشرط ألا يزول الحب والرحمة من قلوب الآخرين.
لا أجد تفسيرًا أفضل من هذا لطفلة المستشفى (شيماء) التي نالت دمي وكافولات إبنة صديقي.