كان يقبع في محبسه والأغلال في قدمه

كان يقبع في محبسه والأغلال في قدمه ويكاد قلبه أن ينفطر وهو يسمع صليل السيوف وصهيل الخيول وصيحات الأبطال ، من هو؟

الفارس الذي لا يشق له غبار البطل المقدام!

إنه أبو محجن الثقفي شاعر وفارس عربي مسلم مغوار من بني ثقيف ،

وكان رجل من المسلمين قد ابتلي بشرب الخمر ، وطالما عوقب عليها ،

فاختبأ في مكان بعيد وشرب الخمر ، فلما علم به سعد غضب عليه وحرمه من دخول القتال وأمر أن يقيد بالسلاسل ويغلق عليه في خيمة.

فلما ابتدأ القتال وسمع أبو محجن صهيل الخيول وصيحات الأبطال ،

لم يطق أن يصبر على القيد واشتاق إلى خدمة هذا الدين وبذل روحه لله وإن كان عاصيا وإن كان مدمن خمر ،

إلا أنه مسلم يحب الله ورسوله.

فتحسر قلبه وندم على ما كان منه وأخذ يقول :

كفى حزنا أن تدخل الخيل بالقنى وأترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني تصم المناديا

يُقَطِّع قلبي حسرةً أن أرى الوغى ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا

وأن أشهد الإسلام يدعو مُغَوِّثاً فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا

ثم نادى على زوجة سعد بن أبي وقاص وطلب منها أن تفك قيوده وتعطيه فرس سعد وكانت تدعى البلقاء ،

وتتركه ليجاهد في سبيل الله ووعدها أن يأتي فى آخر الليل ليضع قدمه في القيود مرة أخرى.

فرفضت سلمى فسمعته يبكي بحرقه ويقول :

‏سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا فسيفيَ أضحى وَيْحَهُ اليومَ صاديا

دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً تُفَرِّجُ من همّي وتشفي فؤاديا

فرقت سلمى لحاله ثم استخارت الله وقالت له : إني استخرت الله ورضيت بعهدك ثم أطلقته.

إقرأ أيضا: مائدة من الجنة نزلت على قوم معينين

فارتدى درعه ثم تلثم حتى لا يعرفه أحد ثم امتطي البلقاء ،

فانطلق كالريح التي لا يقف في طريقها شيء ، ثم توجه إلى الميسرة فقاتل قتالا شديدا ،

وأصبحت رؤوس الفرس تتطاير وفعل في الفرس ما لم يفعله العرب.

فتعجب منه المسلمون قبل الفرس فهم لا يعرفون من هذا الفارس الملثم الذي ظهر فجأة!

ثم اتجه إلى الميمنة وفعل بالفرس الأفاعيل ، فتعجبوا منه كثيرا ،

هذا الذي ظهر بيننا فجأة وهو بكل هذه القوة وأين كان منذ البداية؟

ثم ترك الميمنة وتوجه إلى قلب الجيش وهو يقاتل قتالا عجيبا ، قتالا لا تعرفه العرب ،

وكل ما توجه إلى مكان في أرض المعركة تعجب من بجوراه من هذا؟

المسلمون من شدة تعجبهم يقولون : والله لولا أنا لا نرى الملائكة لقلنا : ملك يثبتنا.

وكان سعد مريض في هذا اليوم فكان يراقب المعركة من أعلى القصر ،

فكان يشاهده وهو يفعل كل هذا فتعجب سعد وقال :

سبحان الله وقال الضرب ضرب أبي محجن والكر البلقاء ‏وأبو محجن في القيد ، والبلقاء في الحبس!

ثم يقول : والله لولا حبسُ أبي محجن ، لقلت : أبو محجن ، وقلت : البلقاء.

ولما انتهى اليوم عاد إلى محبسه وربط الفرس في مكانها ثم أدخل قدمه في القيود وكأن شيئا لم يكن.

وهكذا هم المخلصون لا يهمهم أن يعرفهم الناس يكفيهم أن الله يعرفهم.

وفي اليوم الثاني ذهبت الزوجة الأمينة إلى زوجها وأخبرته بما حدث منها ،

فغضب سعد ثم سامحها وسامحه وأطلقه في أرض المعركة.

البداية والنهاية – ابن كثير.

Exit mobile version