كان يمتلك كل شيء إلا أن يصبح أبا ، ومع ندرة من يصارحون الناس بذلك ، لكنه كان متصالحا مع الأمر ،
لا يرى داع للكذب فقد خطب فتاة تلو الأخرى وذكر وضعه الصحي ، إلا أنه جوبه بالرفض من جميعهن.
لحين أخبرته أخته أن يتقدم لخطبة إبنة جيرانها ، ولن ترفض الإرتباط به ، فأخلاقها العالية ، وصفاتها المثالية ، جعَلَتْ منها فتاة ذات روح وقلب طيب.
تصورها تلك الفتاة الملائكية التي ستحيا معه عمراً بدون مُنَغّصات ، ولن تُعيّره بذلك النقص ، فكان تصورّه صائباً ،
فقد عاشت معه بضعة أشهر ، لم تفتح فمها بكلمة ، لحين قرّرت أن تعود لتكملة دراستها ،
فوضعه المادي كان يسمح له بدفع مصاريفها، لكنه رفض طلبها قائلا :
لم نتفق على موضوع الدراسة ، فلم تخبريني قط بذلك.
فردت محتدة :
وإن يكن ، فالموضوع لم يكن ببالي من قبل ، لكنه موجود الآن.
أنا أريد زوجةً لا يُشغلها شيء عني وعن بيتي
إذا أعطني ولدا أنشغل به.
كانت تلك الجملة كصاعقة ضربَتْ رأسه ، لكنه صمت لبرهة وتنفس الصعداء ثم قال :
لك ما تريدين.
نجحت بالشهادة الثانوية ، لكن لم تستطع تحقيقَ حلمها بالدخول لكلية الصيدلة ، فطلبَت منه أن يُدخلها جامعة خاصة ،
لم يعارض الأمر ، فقد إعتقد أنها حماسة منها للحصول على الشهادة ، وحالما تأخذ اسم الصيدلانية ، ستجلس في المنزل.
إقرأ أيضا: النصيب
كانت سنوات الدراسة عليها من أجمل سنين حياتها ، فقد تحقق حلمها بعد أن أصبح مستحيلا بسبب وضع عائلتها المادي.
أما هو فقد مضت تلك السنوات عليه بمرار العلقم ، فقد كان تعييرها له بعدم الإنجاب صادماً ، مما جعله يشعر بالنفور الدائم منها.
تخرَّجَت من الجامعة ، وفي الإحتفال الذي حضرته ودعت إليه الأهل والأصدقاء بدون علمه ؛ قالت له أمام كل الحضور :
هذا إحتفال نجاحي ، وبعد فترة سأقيم إحتفال افتتاح صيدَليّتي ، أليسَ كذلك حبيبي ؟
كانت تلك الجملة وكأنها صفعة على وجهه أمام الناس ، فابتسم لها بإكراه ، وأومأ رأسه بالموافقة.
وما إن ذهب الضيوف حتى تطايرت الصحون والكاسات كالقذائف الزجاجية ، وارتفع صراخه وهو يقول :
أتَضَعيني تحت الأمر ، ما هذا الإستفزاز الذي تقومين به ، تريدين العمل وأنا لست موافق
ردَّت بكل برود :
أعطني ولداً كي يُشغلني ولا أعمل.
إزداد غليان دمه من الغضب ، ومن شعور القهر الذي انتَابَه ؛ نظرَ لها وهو مقطّب الجبين، بعينان اغرَورَقَتا بالدموع :
هل لديكِ طلبات أخرى ؟!
لا.
على الرّغم من تحريض أخته له على تطليقها منذ قرارها بالدراسة ، لكنه رفض ذلك ، فكيفَ سيغدر بالإمرأة الوحيدة التي تغاضَت عن نقصه ، وقَبِلَت بالزواج به.
بعد مدة ، تم تجهيز الصيدلية وأقامت حفل إفتتاح لها ، ومضت سنتين كانتا أجمل من سنوات دراستها ، لكنها لم تكن تعلم ماذا كان يخبئ القدَر لها.
إقرأ أيضا: يحكى أن في يوم من الأيام جمع الملك كل حكماء مملكته
منذ أول يوم لها في العمل ، فكَّرَتْ بطريقةٍ تستطيع بها أن تجني أكبر قَدَر من النقود ،
وبالوقت ذاته لا تتقاعس عن واجباتها المنزلية كي لا تفتح مجالاً لزوجها أن يُكّلمها عن ترك العمل ،
إلى أنْ تُجاريه مادياً ، فتفتعلْ مشكلة تأخذ على إثرِها الطلاق ، كي تتزوّج رجلاً يمتلك القدرة على الإنجاب.
ولا تقلّ إمكانياته المادية عنه ، كَوْنَ حياتها أصبحت كاملة بعد معاناة طويلة ولا ينقصها سوى الإنجاب.
لم ترى أمامها طريقةً بحكم عملها ، سوى أن تبيع الأدوية المخدّرة بسعر خيالي لأي شخص يطلبها ،
ومع أن زوجها كان على علم بكل ما تفعل ، لكنه لم يفتح فمه بكلمة ، فقد رآها ذات مرة عن طريق كاميرات المراقبة التي وَضَعَها من باب الأمن.
لَمْ يعلم لم كان يشعر بإحساسٍ يرْدَعُهُ دوماً عن الحديث معها وتوعِيَتِها ، أهو بسبب جرحها السابق له ؟
أم أنَّ الحقد تملّكه ويرغب أن يجعلها تغوص في بحر الخطأ لأنْ تغرق وتحتاج إنقاذه لها ،
فيستطيعَ بذلك إستفزازها والتّحكُّمَ بها ؟
بعد مضي سنتين تعرضت لحادث سير ، تمّ نقلها إلى المشفى ، وعند الإتصال به أسرع إليها ، فقال له الطبيب :
إستَطَعنا إنقاذها ، لكن للأسف لم نستطع إنقاذ الجنين.
سقطَ أرضاً وكأنّه أُصيب بالشلل المُفاجئ ، حاول الطبيب تهدئته قائلا :
لا عليك ، فأنتما بسنّ الإنجاب ، ستنجبون غيره.
نظرَ له وآثار الصدمة على وجهه ثم قال :
أرجوك لا تُخبر زوجتي ، فهي حساسة وأخشى أن تنهار ، فأنا سأخبرها تدريجيا.
إحترم الطبيب رغبته وأمر كل الممرضات ألا يُخبرْنَها .
نقلها إلى المنزل وكأن شيئاً لم يكن ، اعتنى بها وبنفس النفور الذي اعتادَت عليه ، وباتَت لا تشعر به.
إقرأ أيضا: الحلم
إلى أن عادت لعملها ، ولم تمضي بضعة أيام حتى أخبر الأمن عنها ، بمساعدة شخص يعرفه وهو أحد زبائنها.
وبعد أن تم التأكد من صحة الإبلاغ تمَّ القبض عليها وزجّها بالسجن ، وسُحِبَتْ رخصتها منها ، ثم طلَّقها.
وبذلك شعر بالإنتصار وأنه استعاد حقه وشفى جرحه السابق ، بدون أن يُلَوّثَ سمعته ولا يديه بها.
ثم تزوّج على الفور ، فأمام الناس كان حبسها وطلاقه لها نتيجة ما اقترفَت يداها ، فهو لم يكن على علم بشيء.
لم يخبر زوجته الثانية بعدم قدرته على الإنجاب ، ولم يمضي شهران حتى حَّلقت زوجته إليه فرحاً وهي تقول :
أنا حامل .
إنهال بالضرب المُبرح عليها ، إلى أن أجْهَضَتْ ، ثم أخبر أهلها والشرطة بأنها قد خانَته وتستحق السجن عوضاً عنه ،
لكنه أجبِرَ على عمل تحاليل جديدة كي يُثبِتَ أنه عقيم ، وعند صدور النتائج تبيّن أنّ باستطاعته الإنجاب.
فكاد أن يُصاب بالجنون بعد أن أصاب زوجته الثانية بالعقم ، وتَخلّص من الأولى وهي ليست خائنة.
فأصبح يحادث نفسه ليلاً ونهار بكل يوم يمضي عليه في السجن :
يا ترى هل التحاليل الأولى خاطئة ؟ أم أن معجزة قد حصلَت؟ أم أنَّ خرافات العلاج الطبيعي الذي كانت تعطيني إياه أختي قد تحقَّقَت ؟